السبت، 17 سبتمبر 2016

احذَرُوا هَذِه المدَاخِلَ الحِزبِيَّة مِن خِلَالِ بَعضِ القَوَاعِدِ السَّلَفِيَّة (الحلقَةُ الرَّابِعَة)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد: فهذه الحلقة الرابعة من مقالنا الذي بعنوان " احذروا هذه المداخل الحزبية من خلال بعض القواعد السلفية ".
ونستهلها بالمدخل الحزبي من خلال قاعدة:
* مراعاة المصلحة في هجر المبتدعة *

مراعاة المصلحة في هجر المبتدعة والمخالفين أمرٌ مطلوب عند أهل السنة، وقد تذرَّع به الحزبيُّون لمجالسة المبتدعة و مماشاتهم ومخالطتهم بحجة أنه لا مصلحة تُرجى من هجرهم، وأنَّ هجرهم لا يزيدهم إلا شرًّا ، وأن المصلحة في مخالطتهم وتأليفهم، بل بدعوى اشتمال الهجر على عظيمٍ من المفاسد تُغمَر في بحرها مصالحه إن وجدت!! والنتيجة هي إلغاء الهجر، و إذابةُ السلفيين في أوساط المميِّعة والمنحرفين .
و قد استند أهل التحزُّب و التميُّع في دندنتهم حول مراعاة المصلحة في الهجر إلى كلامٍ لبعض العلماء لم يفهموه، أو فهموه لكنهم حرَّفوه وأخرجوه عن مضمونه ليتناسب مع أهوائهم، ومن ثمَّ يستغلونه في التشويش على أهل السنة، وإثارة الشبه في أوساطهم، كما هي عادة أهل البدع في سابق الدهر و لاحقه.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في كتابه " أدب الطلب" (ص43): « وقد جرت عادة أهل البدع في سابق الدهر ولاحقه بأنهم يفرحون بصدور الكلمة الواحدة من عالم من العلماء ويبالغون في إشهارها وإذاعتها فيما بينهم و يجعلونها حجة على بدعتهم ويضربون بها وجه من أنكر عليهم »انتهى .
و هذا الذي صنعه الحزبيون الذين سعوا بخيلهم ورجلهم لهدم الأصل السنِّي في هجر المخالف والمبتدع، حيث عمدوا إلى أقوال بعض علماء السنة التي صرحوا فيها بلزوم مراعاة المصلحة في هجر المبتدع، وحاولوا استغلالها لتبرير مواقفهم التمييعية من المخالفين، وجعلها حجة لأهوائهم وأباطيلهم والضرب بها في وجه من أنكر عليهم من أهل السنة .
فخالطوا المبتدعة بحجة أن لا مصلحة ترجى من هجرهم، وأنَّ هجرهم لا يزيدهم إلا شرًّا وانحرافًا، وأن المصلحة في مخالطتهم وتأليفهم، و..و.. فما درى أهل السنة إلا وهم يقلِبون لهم ظهر المجنّ، و يتحولون إلى محامين يدافعون عن المبتدعة، ويطعنون في أهل السنة، فراح المساكين يراعون مصلحة المبتدعة، فإذا بهم يضيِّعون مصلحتهم ويقعون في حبالهم .
فإن في الهجر مصلحتان:
مصلحة تعود إلى الهاجر، ومصلحة تعود إلى المهجور .
فإذا روعي في الهجر مصلحة الهاجر نفسه فهذا يُسمَّى: الهجر الوقائيّ .
وإذا روعي في الهجر مصلحة المهجور فهذا يسمَّى: الهجر التأديبيّ .
وتتمثل مصلحة المهجور: وهو المخالف، في تأدُّبه و ارتداعِه بالهجر الذي يحمله على مراجعة نفسه، والتوبة من غيِّه وضلاله .
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى"(28/206):« وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ »انتهى .
بينما تتمثل مصلحة الهاجر: في وقايته لنفسه من شبهات المخالف المبتدع، فإن أهل البدع أصحاب شبهاتٍ و تلبيسات، يُخشى على من يجالسهم أن يتأثر ببعضها فتنتقل إليه العدوى، كما تنتقل العدوى من الرجل المريض إلى الصحيح .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « فالحذر من أهل البدع، وبغضهم وهجرانهم ومقاطعتهم هو السبيل الصحيح لحماية الأصِحَّاء من أهل السنة من الوقوع في فتنتهم »[ انظر: "مجموعة كتب ورسائل الشيخ"(4/337) ] .
والملاحظ على هؤلاء الحزبيين المتباكين على المبتدعة والمنحرفين: حصرهم المصلحة المقصودة بالهجر في مصلحة المهجور، الذي هو المخالف و المبتدع، في وقت يُهملون مصلحة الهاجر، وهو السنِّي السَّلفي!! .
هذه المصلحة العظيمة التي بها تُحفظ عقيدة أهل السنة، ويُحمى بها منهجهم لا نكاد نسمع حولها همسةً من قبل أهل التحزُّب، ولا يولونها اهتمامهم، بينما يتباكون بكاء التماسيح على مصلحة المخالفين و الحزبيين، و يستغلُّونها في الذَّب عنهم باسمها، وتحت ستارها .
إنَّ مصلحة السلفيِّ عند أهل السنة أولى بالمراعاة من مصلحة المبتدع المخالف، لأن مراعاة مصلحة السلفي فيها حفظٌ لرأس مال السلفيين، ومراعاة مصلحة المهجور المخالف فيها طلبٌ للربح، وحفظ رأس المال مُقدَّمٌ على طلب الربح والفائدة .
و لا تتحقق مصلحة السلفي في دينه إلا بهجران أهل الشبه والضلال، وفراره منهم أشدَّ من فراره من المجذوم و الأسد، و أصحاب الأمراض المعدية .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« هؤلاء يتعلقون بكلام ابن تيمية في مراعاة المصالح والمفاسد وينزلونه في غير منازله، ويهملون مصلحة الشباب الذين وقع كثير منهم في أحضان أهل البدع .
فيجب أن نراعي في المفاسد والمصالح أول شيء مصلحتك أنت أيها الشاب، هل من مصلحتك أن تخالط أهل البدع؟
نستخدم هنا قاعدة سد الذرائع، ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ يعني لا مصلحة في الاختلاط بأهل البدع إلا أن تنصحهم وتبين لهم الحق .
أما أن تجالسهم وتضاحكهم وتتخذ منهم أخدانًا وأخلاء؛ بل يصل بك الأمر إلى موالاتهم ومعاداة أهل السنة، فهذا هو الضلال البعيد، يقع فيه كثير من الناس، يجره الشيطان بحبل المصلحة فيرتمي في النهاية في أحضان أهل البدع، ثم ينقلب خصمًا لدودًا على أهل السنة .
فأنا أقول تراعى المصالح والمفاسد أولا في مصلحة نفسك، أنت تعرف شخصك، تعرف مدى ثباتك على الحق واحترامك له، ثم ماذا تريد من مخالطتك لأهل البدع؟ هل تريد المصلحة أو تريد الاستفادة منهم؟
إن كنت تريد الاستفادة منهم فاتهم نفسك الضعيفة وأبعدها، وإن كنت ترى عندك القدرة والقوة على نصحهم والتأثير فيهم وردهم من الباطل إلى الحق؛ فاختلط بهم على هذا الأساس لنصحهم فقط، سرًّا وعلانية، لا للضحك ولا للأكل ولا للشرب ولا لشيء مما يسخطه الله -تبارك وتعالى- أو يؤدي بك إلى أن تقع في الضلال، أو تقع في البدع .
فهجران أهل البدع أصل أصيل عند أهل السنة ساروا عليه، وابن تيمية رأى مراعاة المصالح والمفاسد، لا على منهج من يريد أن يجرَّ شباب الأمة الذين ينفع الله بهم الإسلام، ويرفع بهم رايته، فيجرُّهم إلى أهل البدع، فاستخدم هذه القاعدة أسوأ استخدام واستغلها أسوأ استغلال .
فذهب كثير من الناس فوقعوا في أحضان أهل البدع وضحايا لأهل البدع باسم مراعاة المصلحة التي لا يحسنون مراعاتها، والتي يهمل فيها مصلحة هذا المسكين الذي يدفع إلى هوة الباطل والضلال، وقد وقع كثير بهذا السبب وبسبب القاعدة الثانية عندهم: نقرأ كتب أهل البدع أو كتب المفكرين فما كان حسنًا أخذناه وما كان باطلًا تركناه!»[ انظر "مجموعة كتب ورسائل الشيخ ربيع "(14/304-305) ] .

* لزومُ غرزِ علماء السُّنة و عدم الشُّذوذِ عنهم *

لزوم غرزِ علماءِ السُّنة واحترامهم وتوقيرهم، والصدور عن توجيهاتهم والرجوع إليهم، وعدم الشذوذ عنهم، أمرٌ لازمٌ عند أهل السنة، بل إن ذلك ليعتبر من أصولهم و بدهيات منهجهم! .
لكننا نجد أهل التحزُّب يحاولون استغلال هذا الأصل لإسقاط جرح من جرحَهم من مشايخ السنة وكَشفَ أباطيلَهم وأباطيلَ شيوخِهم، فيردُّون جرح الجارح السلفي ويرفضونه بدعوى أنه انفرد عن العلماء وشذَّ عنهم في جرحه لفلانٍ وفلانٍ من الحزبيِّين، فلا يأخذون به حتى يُجمِع عليه العلماء أو يقول به أكثرهم، فإن وافقه العلماء أو أكثرهم على جرحه و إلا لم يُقبل جرحه عندهم.
فيجعلون ميزانهم في قبول الجرح في المجروحين هو الكثرة، فالعبرة عندهم بالكثرة لا بالأدلة والبراهين، و الشذوذ عندهم هو مخالفة الكثرة من العلماء .
والحقُّ أن الشذوذَ هو مخالفة الحق والأدلة، لا مجرد مخالفة الأكثرية من الناس .
قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه "إحكام الأحكام" (5/661): « الشذوذ هو مفارقة واحد من العلماء سائرهم، وهذا قول قد بيَّنا بطلانه في باب الكلام في الإجماع...وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق فهو محمود ممدوح، والشذوذ مذموم بإجماع، فمحال أن يكون المرء محمودًا مذمومًا من وجه واحد في وقت واحد.. الشذوذ هو مخالفة الحق، فكل من خالف الصواب في مسألة ما، فهو فيها شاذ، وسواء كان أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم والجماعة والجملة أهل الحق ولو لم يكن في الأرض إلا واحد »انتهى .
* وهذه هي عِلَّةُ تقديم الجرح المفسَّر على التعديل عند أهل العلم، فإنهم يُقدِّمون قول الجارح المؤيَّد بالبراهين والأدلة على قول المعدِّلين ولو كثر عددهم؛ لأن الجارح والحالة هذه عنده زيادة علم على المعدلين، وهذه العلة ثابتةٌ سواءٌ قلَّ المعدِّلون أم كثروا.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه " الكفاية في علم الرواية "( 1 / 311): « إذا عدل جماعة رجلا وجرحه أقل عددا من المعدلين ، فإن الذي عليه جمهور العلماء أن الحكم للجرح والعمل به أولى ، وقالت طائفة : بل الحكم للعدالة ، وهذا خطأ ، لأجل ما ذكرناه من أن الجارحين يصدقون المعدلين في العلم بالظاهر، ويقولون : عندنا زيادة علم لم تعلموه من باطن أمره، وقد اعتلت هذه الطائفة بأن كثرة المعدلين تقوي حالهم ، وتوجب العمل بخبرهم ، وقلة الجارحين تضعف خبرهم ، وهذا بُعْدٌ ممن توهمه ، لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون ، ولو أخبروا بذلك وقالوا : نشهد أن هذا لم يقع منه ، لخرجوا بذلك من أن يكونوا أهل تعديل أو جرح ، لأنها شهادة باطلة على نفي ما يصح ، ويجوز وقوعه وإن لم يعلموه ، فثبت ما ذكرناه »انتهى .
ونقول لأهل التحزُّب والتشغيب: أليس ممَّا هو مُقرَّرٌ في علم أصول الفقه أن مخالفةَ المجتهدِ الواحدِ لجماهير المجتهدين في مسألة ما، ينخرِم به إجماعهم؟! بل لا ينعقد الإجماع أصلًا بمخالفة الواحد والإثنين ممن يعتدُّ بأقوالهم على الصحيح وهو قول الجمهور؟! ومعنى هذا: أن الحق قد يكون مع المخالف لقول الجمهور إذا كانت الحجة معه، و إذا كان الأمر كذلك فهو حينئذٍ الجماعة! وهو السواد الأعظم! فيكون مخالفه هو الشَّاذ و لو بلغ عدد المخالفين ما بلغ! .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين "(3/409-410):« واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض قال: عمرو بن ميمون الأودي: صحبتُ معاذًا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبتُ من بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: « عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة » ، ثم سمعته يوما من الأيام وهو يقول: « سيولى عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة» قال: قلت يا أصحاب محمد؟ ما أدري ما تحدثون قال: وما ذاك ؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضُّني عليها ثم تقول لي: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة!؟ قال: « يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية! أتدري ما الجماعة؟ قلت لا، قال: « إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك » وفي لفظ آخر: « فضرب على فخذيَّ وقال: ويحك إن جمهور الناس فارقوا الجماعة وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى» .
وقال نعيم بن حماد: « إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ » ذكرهما البيهقي وغيره .
وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم فقال: أتدرى ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه .
فمسخ المختلفون الذين جعلوا السَّواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عيارًا على السنة، وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكرًا لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار، وقالوا: من شذَّ شذَّ الله به في النار! وما عرف المختلفون أن الشَّاذ ما خالف الحق وإن كان الناسُ كلُّهم عليه إلا واحدًا منهم فهم الشَّاذُّون .
وقد شذَّ النَّاس كلُّهم زمن أحمد بن حنبل إلَّا نفرًا يسيرًا فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذٍ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشَّاذُّون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة.. »انتهى كلام ابن القيم رحمه الله .
و سئل العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: هل يشترط في جرح أهل البدع إجماع أهل العصر، أم يكفي عالم واحد؟
فأجاب حفظه الله:« هذه من القواعد المميِّعة الخبيثة- بارك الله فيكم-، أيُّ عصر اشترط هذا الإجماع؟! وما الدليل على هذا الشرط؟!! كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل..هؤلاء مميِّعون..فلا تسمعوا لهذه التُّرَّهات، فإذا جرَّح عالم بصير شخصًا-بارك الله فيكم- يجب قبول هذا الجرح، فإذا عارضه عالم عدل متقن، حينئذ يُدرس- يعني- ما قاله الطرفان ويُنظر هذا الجرح وهذا التعديل، فإن كان الجرح مفسَّرًا مبيَّنًا قُدِّم على التعديل ولو كثُر عدد المعدِّلين، إذا جرَّح عالمٌ بجرح مفسَّر وعدَّله عشرون، خمسون عالما ما عندهم أدلة، ما عندهم إلا حُسن الظَّنّ والأخذ بالظاهر، وعنده الأدلة على جرح هذا الرجل، فإنه يُقدم الجرح، لأن الجارح معه حجة، والحجة هي المقدَّمة، و أحيانًا تقدم الحجة ولو خالفها أهل الأرض، ملئ الأرض خالفه و الحجة معه فالحق معه، و الجماعة من كان على الحق و لو كان وحده ، لو كان إنسان على السنة و خالفه أهل مدينتين، ثلاث مبتدعة، الحق معه و يقدم ما عنده من الحجة و الحق على ما عند الآخرين من الأباطيل ، فيجب أن نحترم الحق و أن نحترم الحجة و البرهان...فالكثرة لا قيمة لها إذا كانت خَلِيت من الحجة ، فلو اجتمع أهل الأرض إلا عدد قليل على باطل، و ليس لهم حجة فلا قيمة لهم، و لا قيمة لموافقتهم، ولو كان الذي يقابلهم شخص واحد أو عدد قليل »[ من " شريط سمعي في موقع الشيخ في الكلام على فتنة فالح الحربي " ] .

* التثبت في الأخبار و عدم العجلة في قبولها إلا بعد التبيُّن من صحتها *

من منهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يتعجَّلون في قبول الأخبار، ولا يتسرَّعون في بناء الأحكام عليها، و اتخاذ المواقف من منطلقها، حتى يتبيَّنوا ويتثبَّتوا من صحتها .
لكنَّ ذلك مخصوصٌ عندهم بأخبار الفُسَّاق وما يلحق بها كأخبار المجاهيل، وأما أخبار الثقات العدول فإنهم لا يتعاملون معها بهذه المعاملة، ولا ينظرون إليها بهذا المنظار، بل يقبلونها ويبنون عليها الأحكام، ولا يتثبَّتون منها كما يتثبَّتون من أخبار الفسَّاق والمجاهيل .
و ذلك عملًا بقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو ﴾ .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في تفسير هذه الآية من سورة الحجرات كما في "أضواء البيان": « دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين: الأول منهما: أن الفاسق إن جاء بنبإ ممكن معرفة حقيقته ، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب فإنه يجب فيه التثبت، والثاني: هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل لأن قوله تعالى:﴿ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبيَّنوا ﴾ يدل بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته: أن الجائي بنبإ إن كان غير فاسق بل عدلاً لا يلزم التبيُّن في نبئه على قراءة : ﴿ فتبينوا ﴾. ولا التثبت على قراءة : ﴿ فتثبتوا ﴾ »انتهى .
فأهل السنة لا يتثبَّتون من أخبار الثقات، ولا يتردَّدون في قبولها، و لا يتبيَّنون منها كما يتبيَّنون ويتثبَّتون من أخبار غير الثقات من الفساق والمجاهيل و نحوهم، هذا منهجهم انطلاقًا من الآية السابقة وما كان في بابها .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« إذا أخبرك الثقة بنبإٍ كفاك ذلك شرعاً ولا يلزم الثبت إلا في حال إخبار الفاسق كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُو ﴾، وهذا منهج أهل السنة والجماعة في تلقي الأخبار وقبولها، أو ردِّها »[ انظر: "مجموعة كتب ورسائل الشيخ"(13/44) ] .
ولقد أكثر الحزبيُّون من اللهج بأصل التثبُّت، وأسرفوا في المناداة به، وتظاهروا بالتورع في قبول الأخبار والشائعات، والتَّأنِّي في الأخذ بها إلى حين التثبُّت منها .
وقعَّدوا في سبيل ذلك القواعد، ومن ذلك قولهم: لا نقبل ما نُقِل إلينا و ما بلغنا عن فلان وفلان حتى نقف عليه بأنفسنا مسموعًا أو مكتوبًا .
لكنهم لا يخصُّون هذا التثبت بأخبار الفُسَّاق ونحوهم، كما هي طريقة السلف، بل يتعدَّون ذلك إلى أخبار الثقات، فيتعاملون معها كما يتعاملون مع أخبار الفساق والمجاهيل، من حيث التأنِّي والتريُّث في قبولها، حتى يُتبيَّن ويُتثبَّت منها، أو إلى حين وقوفهم على ما أخبر به الثقة بأنفسهم، مخالفين بذلك منهج السلف، وطريقة أهل السنة في عدم التثبت من خبر الثقة ولزوم قبوله وبناء الأحكام عليه .
ومقصود أهل التحزُّب بهذا الصنيع المحدث، والأصل الفاسد، التشكيك في أخبار الثقات من أهل السنة، و رد أحكام العلماء على المنحرفين، دفاعًا عن أهل البدع، ومحاماةً عنهم، بدعوى التثبت، فيقول قائلهم: لا أقبل الكلام في فلان حتى أتثبت مما نُسب إليه من المخالفات، و أقف على أخطائه بنفسي، فلا يكفي عند الواحد منهم إخبار العدول الثقات عن حال الشخص ، وما عنده من بلايا وانحرافات، حتى يسمعها بنفسه بصوته، أو يقرأها في كتبه!
وممن كان يدندن بهذه القاعدة البدعية المأربي أبو الحسن، وقبله المغراوي وغيره، ثم ورثها عنهم أهل التمييع في الوقت الحاضر .
قال العلامة المجاهد ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله، في رسالته "جناية أبي الحسن على الأصول السلفية":« أبو الحسن يسير على منهج عدنان وغيره من أهل الباطل في رد الحق؛ بدعوى أنه يأخذ بأصل « التثبت » فيقول:« أنا لا أقبل الكلام في أي شخص سواءً كان هذا الكلام في كتاب أو سمعته في شريط حتى أسمعه من الشخص المتكلم فيه أو أقرأه في كتابه »، ويرد فتاوى وأحكام العلماء الثقات القائمة على الأدلة بهذا الأسلوب الفاسد، حتى لو سمع المتكلم أو قرأه من كتابه، ثم يقبل كلام من لعله مجهول أو فاسق أو كاذب، والحق أنَّ تثبُّتَه المزعوم إنما هو لرد الحق لا من أجل الوصول إليه، ولا لرد الباطل » [ "مجموعة كتب ورسائل الشيخ" (13/78-79)] .
* و مما يدل على أن أهل البدع والتحزُّب لا قصد لهم بما أحدثوه من بدعة التثبُّت الحزبية إلا رد أحكام العلماء على المنحرفين، و الدفاع عن أهل البدع، و المحاماة عنهم أنهم إذا وقفوا على ضلالات متبوعيهم بأنفسهم مقروءة أو مسموعة، كما هو شرطهم، ولم يجدوا بُدَّا من إنكارها، قال قائلهم: هي مغمورةٌ في بحار حسناتهم! جريًا على بدعة الموازنات، أو قال: هي من مُجمل الكلام الذي يُردُّ إلى مفصّله، عملًا بقاعدة المجمل و المفصل البدعية، وإلَّا قال: لا يلزمني الأخذ بهذا الجرح، أو لم يقنعني!! أو أنه اجتهادٌ معارَضٌ باجتهادٍ آخر، فيتلاعبون بالحق، ولا يُسلِّمون بجرح علماء السنة، ولا يأخذون به تعصُّبًا منهم للباطل وأهله، ولسان حالهم يقول: معزةٌ ولو طارت وحلَّقت !! نعوذ بالله من الهوى .
* نُصح المخالف *

أهل السنة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: « أعلم الناس بالحق، وأرحم الخلق بالخلق »[ «منهاج السنة النبوية» (5/ 158)] ، ومن رحمتهم بالخلق قيامهم بواجب النصيحة للمسلمين عامة وللمخالفين خاصة، « يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، و ما أقبح أثر الناس عليهم ... » [ الرد على الزنادقة والجهمية (ص 6 ) ] .
فلا أنصح لعباد الله من أهل السنة، فإنك تجدهم ينصحون للمخالف ويصبرون عليه، ويجتهدون في بيان الحق له، وكشف الشبه عنه حرصًا منهم على هدايته.
إلا أن أهل السنة و إن حرصوا على هداية المخالف والمبتدع واجتهدوا في نصحه، فإن ذلك لا يعني أنهم يجالسونه ويتخذونه صاحبًا، ولكن يخالطونه مخالطة الطبيب للمريض، فإنه لا يجلس إليه في كل وقت، وإنما يأتيه في أوقات محدَّدة معيَّنة لقصد علاجه، وتعاهده بالدواء .
ومن مكر أهل التحزُّب والتمييع استغلالهم لمسألة نصح المخالف، حيث تذرَّعوا بها إلى مجالسة المبتدعة ومخالطتهم، فإذا رأيت أحدهم يجالس بعض المبتدعة وحذَّرتَه منهم، اعتذر لك بأنه إنما يجلس إليهم لقصد مناصحتهم، وبيان الحق لهم!، مع أنه قد يمكث معهم الأشهر العديدة، والسنين المديدة، ولا جديد! ويتذرَّع عند من ينتقده من أهل السنة بأنه يُناصحهم! مراوغةً و مكرًا .
سئل العلامة عبيد الجابري حفظه الله: ما حكم الذي يخالط أهل البدع بحجة أنه ينصحهم، وهل يلزم مع النصيحة المخالطة؟
فأجاب: أقول المخالطة قسمان:
قسم الممازجة: وما يصحبها من الهشاشة والبشاشة من غير نكير، وإن حصل نكير فهو ما يشبه المزاح فهذه هي المذمومة والممقوتة.
والقسم الثاني: مخالطة مع شدة النكير وقوة النكير والبيان، قوة النكير عند الحاجة والبيان لهم فهذا لا بأس به – إن شاء الله –، لكن لابد أن ينتهي عند حد، لابد أن ينتهي عند حدٍّ معين، أمَّا أن يستمر طول الوقت فهذا ليس من النصيحة في شيء، هذا يؤدي إلى التخفيف والممازجة وقد يغترُّ به من هو ضعيف في هذا » [المصدر: إذاعة ميراث الأنبياء: قسم: العقيدة والمنهج ( البدع المحدثة)].
وسئل العلامة محمد بن هادي المدخلي حفظه الله: عن المشي مع المخالف لأهل السنة وإذا نصحته قال أنا معه أنصحه؟
فأجاب: « في الحقيقة هذا من التلبيس، تلبيس إبليس عليك، يعني مشيك معه وهو مخالف لأهل السنة هذا مصيبة.. فالمناصحة لا تستلزم المخالطة..» [المصدر: إذاعة ميراث الأنبياء: قسم: وصايا ونصائح ].
* و من مداخل أهل التحزُّب من خلال مسألة نصح المخالف زيادة على ما ذُكر، سعيهم في استغلالها للمحاماة عن أهل البدع، ورؤوس الضلال، حيث قعَّدوا القواعد الفاسدة تحت ستار النصيحة للمخالفين، من ذلك:
قاعدتهم الحزبية: « نصحِّح ولا نجرِّح »، « ننصح ولا نفضح »، ثم فرَّعوا عنها قاعدتهم الخلفية: « نُصحِّح الأخطاء ولا نُجرِّح ولا نَهدِم الأشخاص » .
و مقصودهم من هذه القواعد التمييعية التي قعدوها تحت غطاء النصح: أنَّنا نسعى ونجتهد في تصحيح أخطاء المنحرفين والمخالفين ببذل النصيحة لهم، لكننا لا نُجرِّحهم ولا نسقطهم بها، مهما عظمت، وبلغت في الكثرة والخطورة، فنترك أخطاء المبتدع إن لم يقبل نصيحتنا وأصرَّ على باطله، أما هو فلا نتركه ولا نهجره، ولا نهدمه ولا نفضحه، أو نشهِّر به، والنتيجة: هي إلغاء الهجر والتحذير من أهل البدع، ومخالطة المبتدعة لقصد تمكينهم من نشر شبهاتهم في أوساط أهل السنة .
سئل العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: نرجو منكم التعليق بما ترونه حول قاعدة عدنان « نصحح ولا نجرح » هل هي صحيحة كما يرى هو في دفاعه عنها، أم هي غير صحيحة من الناحية الشرعية ؟.
فأجاب الشيخ حفظه الله:«..هذه القاعدة « نصحح ولا نجرح »، وإن خالفت قاعدته الثانية « إذا حكمت حوكمت »..، فالمؤدى والمقصود واحد، وهو إسكات السلفيين عن إبراز ما عندهم من حق، وإبطال ما عند غيرهم من الباطل، ولإسكاتهم عن نقد أهل البدع والضلال »[" مجموعة كتب ورسائل الشيخ" (11/152-153) ] .

* محبة المؤمن وموالاته بقدر ما معه من إيمان وبغضه بقدر ما معه من فسوقٍ وعصيان *

عصاة المؤمنين أو فساق الملة عند أهل السنة مؤمنون ناقصوا الإيمان، مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض؛ بحسب ما فيهم من البر والفجور، فيُحبُّون على قدر إيمانهم، ويُبغضون على قدر فسوقهم وعصيانهم، هذه هي عقيدة أهل السنة فيهم، وهكذا يعاملونهم كما تجده مقرَّرًا في كتب العقائد السلفية .
وقد حاول أهل التحزُّب التسلل من خلال هذا الأصل السلفي، لقصد تلميع أهل البدع والثناء عليهم وإبراز محاسنهم وحسناتهم لإغراء الناس بهم، ودعوة الناس إلى محبتهم والتعلق بهم .
فتجدهم يتباكون على المبتدع بأنه مسلم، ومادام أنه كذلك فله حقوق الإسلام من المحبة والأخوة والموالاة ، فألحقوه بالعصاة وفسَّاق الملة من جهة الحب والبغض، الموالاة والمعاداة، ما دام أنه لم يخرج من دائرة الإسلام، مع أنك لا تكاد تجدهم يُظهرون إلا محاسنه ويغلِّبونها على مساوئه انطلاقًا من قاعدة الموازنات الحزبية، وهدفهم من ذلك هدم أصل البراءة من المبتدعة ومعاداتهم، و استدراج الناس و الرمي بهم في أحضان أهل البدع .
وقد سبق في المدخل الذي قبل هذا نقل كلام الحزبي عدنان عرعور الذي قال فيه: « ( المسلم أخو المسلم )، مادام مسلماً لم يكفر فهو أخوك .
2- إن لهذه الأخوة حقوقاً ضيعها كثير من المسلمين، ومن أهم هذه الحقوق: « التناصح لا التفاضح »... » .
وقال قبل هذا الكلام:« المسلم يبقى مسلماً مهما فجر ، ومهما فسق ، ومهما ابتدع ، وأن الأخوة لا يبطلها مبطلٌ إلا الكفر .
لو أن شباب الصحوة الإسلامية ومن معهم من الكبار والصغار أدركوا هذه القضية الجديرة بالاهتمام : أن المسلم مهما كان فاسقاً فاجرًا ، فله عليك حق الأخوة بقدر ما قدّر الشرع ، من الضوابط التي وضعها العلماء وليس الآن محل ذكرها ، أخوك رغم أنفك ، مادام في دائرة الإسلام الواسعة» انتهى .
فالمبتدعة إخوةٌ لنا رغم أنوفنا على منطق الحزبيين، ولهم علينا حقوق كسائر إخواننا المسلمين، ومن حقوقهم المفروضة علينا من قبل أهل التحزب: محبتهم و موالاتهم بقدر إيمانهم!! فشأنهم كشأن العصاة وفساق الملة .
وهذا قياسٌ حزبيٌّ فاسد الاعتبار، إذ أنه لم يُنقل عن السلف أنه يعاملون المبتدعة من حيث الحب والبغض كما يعاملون العصاة، بل لم يُنقل عنهم إلا الأمر بهجران المبتدعة وبغضهم وذمِّهم ومعاداتهم والتحذير منهم ومن مجالستهم .
سئل العلامة المحدث ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله : هل يجتمع في الرجل المبتدع حب وبغض؟
فكان مما أجاب به حفظه الله تعالى أن قال: «.. إذا تأملنا كلام السلف ، واستقرأنا عموم كتب السنة ، فلا نجد هذا التوزيع، توزيع القلب في قضية أهل البدع ، إلى حب من جهة، وبغض من جهة ، لا نجد ذلك ، و لا نجد من السلف إلا الحث على بُغضهم وهجرانهم ، بل قد حكى عدد من الأئمة الإجماع على بُغضهم وهجرهم ومقاطعتهم، حكى عدد من الأئمة منهم الإمام البغوي رحمه الله صاحب " شرح السنة" وصاحب " التفسير" وغيرهما من المؤلفات النافعة ، وهو إمام من أئمة السنة ، ولعله يُعَدُّ من المجددين ، وكذلك الإمام الصابوني صاحب " شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث" ، وغيره ، حكوا الإجماع على بُغض أهل البدع ، وهجرانهم ، ومقاطعتهم ، هذا الإجماع من الصحابة ومن بعدهم.
وأظن أنه ما يستطيع إنسان أن يجمع بين الحب والبُغض، ويوزعهما ويقسمهما قسمين، البغض على قدر ما ارتكب من البدعة ، والحب على ما بقي عليه من السنة ، فهذا تكليف بما لا يُطاق، وكل ّ يؤخذ من قوله ويردّ.
وإن قال هذا القول رجل من أئمة الإسلام ، وشأن أقواله شأن أقوال أئمة السنة ، ما كان من حق ّ قبلناه ، ورفعناه على رءوسنا ، و ما كان من خطإ فهذا مردود ، كل يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. .فالقول بأن نُحبَّه على قدر ما عنده من سنة، ونُبغضه على قدر ما عنده من البدع ، هذا الكلام لا يوجد عند السلف وقد ناقشنا هذه الفكرة في بعض الكتابات، الرد على أهل الموازنات ، ومن يتعلق بالموازنات ، ويتستر بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى أن الانسان يُحَبُّ على قدر ما عنده من السنة ، ويُبغض على قدر ما عنده من البدع. ورددنا على هذه الأشياء بكلام السلف ، ومواقفهم ، بل بإجماعهم، أسأل الله أن يُثبتنا على السنة .
كيف نحب الروافض على ما عندهم من الكفريات وهم يبغضوننا أكثر من بُغض اليهود لنا ، كيف نُحبهم؟ ونقسم الحب بيننا وبينهم؟ الشاهد أنك تقرأ في كتب السلف جميعا ما تجد هذه الموازنات ، ونحن إذا أبغضنا أهل البدع من الصوفية وغيرهم ، وهم فِرق كثيرة ، ومن الأشعرية وغيرهم ، لا نُبغضهم مثل بُغض اليهود والنصارى، يعني أن الحب مثل الإيمان يزيد وينقص، ويتفاوت في العباد ، والبغض كذلك ، بُغضِي لليهود غير بُغضي للنصارى، غير بُغضي لأهل البدع.
وإذا اعتدى كفار اليهود والنصارى على مثل الأشاعرة والصوفية فنحن نُدافع عنهم، ونُساعدهم على مواجهة هؤلاء الأعداء ، مع بُغضنا لهم ، وهم يُبغضوننا أشد البُغض ، هم ليس عندهم هذا التوزيع، فالواجب عليهم أن يُحبونا وأن يرجعوا إلى ما عندنا ، ولكن لا حب و لا إنصاف ، بل قد يُبالغ بعض غُلاتهم فيُكفرونا ظلما وعُدوانا ، ونحن لا نُكفرهم ولا نبلغ بهم مبلغ عداوة الكافرين » [كتاب عون الباري شرح السنة للبربهاري ( 2 -981 ) للشيخ حفظه الله] .
* وقد تعلق هؤلاء المميعة في قياسهم للمبتدع على العاصي في مسألة الحب والبغض بكلامٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال فيه:« وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر » [مجموع الفتاوى( 28 /209] .
و بكلام له آخر قال فيه رحمه الله:« قد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية، فهذا طريق الموازنة و المعادلة، ومَنْ سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان »[مجموع الفتاوى(10/366)].
هذا هو مستند أهل التحزب في إلحاق المبتدع بالعاصي في مسألة الحب والبغض .
وقد تولى الأخ الفاضل الشيخ رائد آل طاهر حفظه الله في مقالٍ له نفيس إبطال هذا الاستدلال الحزبي، وتوجيه كلام شيخ الإسلام رحمه الله التوجيه الصحيح الذي يتفق مع مئات النصوص المنقولة عنه في بغض أهل البدع ومعاداته وذمهم وهجرهم .
فقال وفقه الله:« وقد استغل مميعة العصر هذا الأصل استغلالاً فاسداً يدخل من باب تحريف الكلم عن مواضعه، فزعموا أنَّ أهل البدع يُحبون ويوالون ويمدحون ويكرمون من جهة موافقتهم للسنة، ويبغضون ويعادون ويذمون ويهانون من جهة ابتداعهم ومخالفة السنة، وزعموا أنَّ هذا من باب القياس على أهل المعاصي الشهوانية، أو أنه لا فرق بين المبتدع والعاصي في ذلك لكونهم جميعاً يدخلون في فسَّاق أهل الملة.
ثم لما أصَّلوا هذا الأصل الفاسد ذهبوا يبحثون في الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من سلف الأمة الصالح ليستدلوا به فلم يجدوا ما يؤيد باطلهم!، فأكثروا البحث في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فما وجدوه إلا مبغضاً لأهل البدع معاد لهم منكِّلاً بهم محذِّراً منهم على وجه الإطلاق والتعيين.
لكنهم وجدوا له كلاماً مشتبهاً في موضع ما ففرحوا به كثيراً ونشروه في مواطن عديدة على اختلاف أصنافهم وأشكالهم...» ثم ذكر كلام شيخ الإسلام الذي أثبتنا مُلخَّصه آنفًا..ثم قال:« فحمل أهل التمييع هذين النقلين على أهل البدع!، و زعموا أنَّ المبتدع الذي يوافق أهل السنة في بعض المسائل يحب ويوالى ويمدح من هذه الجهة، ويبغض ويعادى ويذم من جهة ابتداعه ومخالفة السنة.
وليس لهم في ذلك حجة إلا الهوى أو الجهل!.
وإنما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمَنْ كان من أهل السنة وعنده بدعة وقعت منه عن اجتهاد أو تأويل أو شبهة؛ مثل أبي إسماعيل الهروي صاحب "منازل السائرين"...» ثم نقل عن شيخ الإسلام من كتابه [منهاج السنة] ما يدل على صدق دعواه، ثم قال: « فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يتكلَّم عن شخص واحد تجتمع فيه السنة والبدعة، وهذا الوصف لا يُطلق إلا على مَنْ كان من أهل السنة لكنه وقع في بدعة عن اجتهاد سائغ، لأننا لو جوَّزنا إطلاق هذا الوصف على أهل البدع أيضاً؛ لما خرج أحدٌ منهم من السنة؛ مهما كانت بدعته ما لم تكن مكفِّرة، فما من صاحب بدعة إلا وله موافقة للسنة في أشياء قلَّت أو كثرت، فهل يُقال: أنَّ أهل البدع - غير المكفِّرة - كلَّهم يوالون ويحبون من جهة!؛ ما دامت عندهم موافقة للسنة ولو كانت يسيرة؟!
فإنْ قال أهل التمييع: نعم!
فنقول لهم: إذاً هنيئاً للشيعة والمعتزلة والخوارج والقدرية والجبرية والمرجئة والأشاعرة والصوفية وغيرهم من الطوائف والفرق قديماً وحديثاً بهذه المحبة والموالاة منكم!!!.
وهذا هو أصل التمييع وحقيقته الذي يحاربه السلفيون اليوم، فليفطن الشباب السلفي لذلك » .
ثم ذكر فروقًا مهمة بين(المبتدع) و (العاصي) في مسألة الحب والبغض، آثرت عدم نقلها طلبًا للاختصار فليراجعها من شاء لأهميتها .
[انطر: مقالا بعنوان "إعلامُ النَّبْهِ أَنَّه لا يقاس (المبتدعُ) على (العاصي) في (المحبةِ والموالاةِ مِن وَجْهِ)" في شبكة سحاب السلفية ] .
* بَلدِيُّ الرَّجل أعلم بِبَلدِّيِّه *

من القواعد المقررة عند أهل السنة في باب الجرح و التعديل: أنَّ بلديَّ الرَّجل أعلم بِبَلديِّه، و بالتَّالي فقوله فيه مُقدَّمٌ على قول غيره، لأنَّ أهل مكة أدرى بشعابها، و أهل البيت أدرى بما فيه، و دلائل هذه القاعدة من كلام السلف و تطبيقاتهم لا تكاد تُحصى، غير أنَّ بعض أهل التَّحزُّب و الرَّدى قد سعوا إلى ليِّ عُنقِ هذه القاعدة و استغلالها لصالحهم، و استخدامها لنصرة متبوعيهم و المحاماة عنهم .
فإذا جاءهم كلامٌ لبعض علماء السنة في التحذير من أحد رموزهم، قالوا: نحن أعلم به من العالم أو الشيخ الذي حذَّر منه! فلا نقبل قوله فيه! و قصدهم من ذلك ردُّ جرح العلماء في متبوعيهم و إسقاطه، و الانتصار لكبرائهم، و أنَّى لهم ذلك .
فإنَّ هذه القاعدة عند أهل السنة إنَّما يؤتى بها في حال اختلاف العلماء في شخص مجهول غير معروف، فهنا نُقدِّم بلدي المجروح فهو أعلم به من غيره.
فتكون هذه القاعدة كالقرينة القوية على ترجيح قول بلدي الرجل في بلديِّه، على قول غيره فيه، بشرط أن يكون بلدي الرجل هذا من الثِّقات المتأهلين للكلام في باب الجرح والتعديل .
كما يُشترط لإعمالها أن لا يكون الجرح في البلديِّ واضحًا مفسَّرًا، فإن كان الجرح في البلدِيِّ من غير بلديِّه مُفسَّرًا مُدلَّلًا بالبراهين و الأدلة الواضحة، فلا مجال هنا للعمل بهذه القاعدة، بل يجب المصير إلى قول الجارح للقاعدة الأصلية في باب الجرح و التعديل: أن الجرح المفسر مقدم على التعديل .
[ينظر مقال للشيخ علي الحذيفي اليمني بعنوان "من مسائل الجرح والتعديل توضيح قاعدة : ( بلدي الرجل أعلم به من غيره )"، و مقال للشيخ أحمد بازمول بعنوان " الأجوبة المسددة " ].
و مما يُنبَّه له كذلك بعض الصُّور التي لها دخلٌ و علاقة بهذه المسألة، ومنها:
طعن بعض الجهال و النكرات في بعض الدعاة السلفيين المعروفين لدى المشايخ، و المُعدَّلين من قِبلهم، بدعوى أنهم أعرف بهؤلاء الدعاة ممن زكاهم من المشايخ! و قصدهم إسقاط تزكية المشايخ، و إثارة الفتنة في أوساط السلفيين .
فنقول لأمثال هؤلاء: لقد سبق ذكر الشَّرط الذي يُقبل به كلام البلديِّ في بلديِّه جرحًا و تعديلًا، ألا وهو الأهلية و أن يكون البلدي ممن يعتد بقوله في هذه المسائل، فمن كان من الجهال النكرات فلا يُقبل كلامه في المعروف، و مثله من كان ضعيفًا أو مجروحًا بفسق أو فحش أو سوء خلقٍ ونحو ذلك من الخوارم فمثله لا يقبل كلامه حتى في المجاهيل فكيف بالثِّقات المعدلين!؟
و ذلك لأنه ضعيفٌ أو مجروح؛ والعلماء لا يقبلون جرح المجروحين والضعفاء، ففي " تهذيب التهذيب "(1/36) للحافظ ابن حجر قال: بعد أن نقل كلام الأزدي في أحمد بن شبيب الحبطي: أنه منكر الحديث، قال: « لم يلتفت أحد إلى هذا القول بل الأزدي غير مرضي»، وقال في " هدي الساري"(ص386):« لا عبرة بقول الأزدي لأنه هو ضعيف، فكيف يُعتمد في تضعيف الثقات ؟!».
آخره، و العلم عند الله تعالى، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
... يتبع بمشيئة الله تعالى و قوته .
http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=19377