الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد: فإن من خِصال أهل التحزُّب: لبسُ الحقِّ بالباطل، وإلباسُ الباطِل ثوب الحقِّ، وتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، تلبيسًا على الناس، وتغريرًا بهم، حتى يتمكَّنوا من بثِّ شبهاتهم وسمومهم في أوساط أهل السنة خاصة، لا سيما في الأمكنة والأزمنة التي لا يقدرون فيها على المجاهرة بأباطيلهم، والتصريح بمعتقداتهم، فإنهم حينذاك يلجئون إلى المغالطات والخداع والتلبيس .
ومن هذه المغالطات و التلبيسات، ما يفعله الحزبيون المنحرفون من رفع شعار بعض الأصول السلفية، والتظاهر بالتمسك بها والسير على دربها، تستُّرًا منهم بها، وهم في حقيقة الأمر يريدون بها غير ما يريده أهل السنة، ويُفسِّرونها بغير تفسيرهم، و هي منهم عبارة عن كلمة حقٍّ يراد بها الباطل، وشعاراتٌ ظاهرها الحق والرحمة، وباطنها الشَّر و الفتنة والكيد لأهل السنة .
حتى انخدع بهم فئامٌ من الناس، إذ لم يتفطَّنوا لمكرهم، فوقعوا في شراكهم، وصاروا جنودًا لهم يستغلونهم في محاربة أهل السنة ويستكثرون بهم عليهم .
ولشِدَّة مفاسد هذه التلبيسات الحزبية على المنتمين للدعوة السلفية فضلًا عن غيرهم، رأيتُ أن أكتب هذا المقال الذي سأورد فيه بمعونة الله وإذنه عددًا من الأصول والقواعد السلفية التي تمَتْرَسَ بها أهل التحزُّب، و رفعوا شعارها، وتظاهروا بالسير عليها، تقية وخداعًا، مع بيان مخالفتهم لأهل السنة في تطبيقها، وإبراز مقاصدهم وأغراضهم من التدثُّر بها، كل ذلك مُستفيدًا إيَّاه، ومُستخلِصًا له من كلام علمائنا، وأئمتنا رحم الله أمواتهم، وحفظ أحياءهم .
ونبدأ بتوفيق الله بالأصل الأول:
** الحث على اتباع الدليل و النهي عن التعصب و التقليد **
اتباع الدليل والبعد عن التعصب والتقليد الأعمى للرجال يعتبر من أصول أهل السنة والجماعة، وأدلته أوضح من ضوء الشمس، وتطبيقات أئمة السنة له لا تكاد تحصى وتُعد .
بيْد أن بعض أهل التحزب قد رفعوا شعار هذا الأصل السلفي، و تظاهروا به، إلا أن مرادهم به ليس هو مراد أهل السنة، فإن مقصودهم منه: ردُّ أحكام العلماء على المنحرفين، وإسقاطها، بحجة عدم التقليد، مع أن أحكام علماء السنة على المخالفين، مُؤيدة بالأدلة الواضحة، والبراهين الساطعة، فالأخذ بأقوالهم والحالة هذه واتباعهم فيها، ليس من التقليد في شيء، زيادة على أنهم ثقات عدول يجب قبول أخبارهم في الرجال وبناء الأحكام عليها، فعلى السلفي أن يكون فطِنًا من مداخل الحزبيين و استغلالاتهم لألفاظ هذه الأصول السلفية .
وممن كان يتستَّر و يَتَمَتْرسُ بهذه القاعدة السلفية لإسقاط جرح علماء السنة في المخالفين: أبو الحسن المأربي ومن تعصب له .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« أبو الحسن المصري المأربي وأنصاره... يزعمون للناس أنهم هم أهل السنة، وأنهم أهل الدليل ولا يقبلون الأقوال إلا بأدلتها.. وأنهم لا يُقلِّدون أحدًا وأن فلانًا وفلانًا ليسوا بمعصومين، ولسنا بملزمين بقول فلان ولا بقول علان، ونحو هذه الدعاوى التي أثبتت الأحداث أنه يصدق عليهم ما قاله الخليفة الراشد علي رضي الله عنه في الخوارج حينما كانوا يرددون قولهم: «لا حكم إلا لله »، فقال: « كلمة حق أريد بها باطل» .
ونحن كنا ندرك أن ما كانوا يُردِّدُونه من الدَّعاوى العريضة، ومنها:..المطالبة بالبرهان، والتمسك بالدليل، ومحاربة التقليد.. .كنا ندرك أن كل هذا ظاهره كلام حق، ولكنهم يريدون به باطلاً عظيماً، يقصدون من ورائه الشغب والفتن على أهل الحق والسنن ..»[ "مجموعة كتب ورسائل الشيخ" (13/175-176) ] .
وقال الشيخ ربيع حفظه الله: « دعوة أبي الحسن إلى عدم تقليد العلماء؛ إنما هي كلمة حق أراد بها باطلًا، أراد بها إسقاط العلماء، وإسقاط أقوالهم وفتاواهم المقرونة بالأدلة والبراهين، وقد بينت أنا والحمد لله فساد قصده وتعلقه بعدم التقليد في مقالي" جناية أبي الحسن على الأصول السلفية" » ["مجموعة كتب ورسائل الشيخ " (9/119-120) ] .
** عذر المجتهد المخطئ **
المجتهد في طلب الحق والباذل وسعه في الوصول إليه، صاحب الأصول الصحيحة الذي يريد وجه الله تعالى، إذا أخطأ فهو معذور عند أهل السنة والجماعة، بل له أجر على اجتهاده، وليس كذلك أهل البدع أصحاب الأصول الخلفية .
وقد رفع أهل التحزُّب شعار هذه القاعدة السلفية، ونادوا كثيرًا بإعمالها، لكن ليس في حقِّ من ذكرنا أوصافهم من أهل السنة، ولكن في حقِّ رؤوس أهل الأهواء، فألبسوهم لباس المجتهدين، و أعطوهم أوصاف المعذورين، وجعلوا ضلالاتهم وأباطيلهم عبارة عن اجتهادات لا ينبغي أن يُنكر عليهم فيها، فضلًا عن تبديعهم بسببها، فهم كغيرهم ممن دار اجتهادهم بين الأجر والأجرين!! .
هكذا يُلبِّسون على الناس، محاولةً منهم للدفاع عن رموزهم وحمايتهم من جرح أهل السنة لهم .
و في كشف تلبيس أهل التحزب و ما يُخفونَه من وراء رفع هذا الشعار، يقول أخبرُ الناسِ بهم في هذا الزمان العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« أهل البدع ما نقول فيهم: إنهم مجتهدون؛ لأنهم متَّبعون للهوى بشهادة الله وشهادة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فالمبتدع الضالّ يفرِّق الآن ويخطئ فيقول لك: هذا اجتهاد، لَمَّا قَتل حكمتيار والأحزابُ الضالّةُ جميلَ الرحمنِ، قالوا: هذا اجتهاد، استباحة دماء السلفيين اجتهاد عندهم، وهكذا لا يقع في ضلالة وطامَّة إلاَّ قالوا: اجتهاد.
فهذا تمييع الإسلام وخلط بين الباطل والضلال والبدع وبين الحقّ، ومساواة أخطاء المجتهدين التي يثابون عليها بالبدع التي توعَّد رسول الله عليها بالنار.
وقال: إنها ضلالة وقال: إنها شرّ الأمور.
فهذا تمييع وظلم للإسلام يجب أن يتبصَّر فيه المسلمون، فيميزون بين أهل الهدى وكيف ينتقدونهم، ويبيِّنون أخطاءهم وبين أهل الضلال وكيف يتعاملون معهم » [ "أسئلة أبي رواحة " (السؤال الثالث) ] .
وقال الشيخ ربيع حفظه الله:« إن كثيرًا من الناس، بل من الدعاة، من ينزل الناس غير منازلهم، فيجعل من رؤساء البدع الجهلة أئمة مجتهدين، لهم أجر المجتهدين في صوابهم وخطئهم، وينسى أن هؤلاء من أهل الأهواء، الذين يحملون بدعواتهم الضالة أوزارهم، وأوزار من تبعهم، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا »[ انظر: " مجموعة كتب ورسائل الشيخ " (5/220) ] » .
وقال الشيخ ربيع حفظه الله:« الصراع بين أهل السنة وبين أهل الحق والباطل ليس آراءً اجتهادية، إن الذي يقابله ويخاصمه ما هو مجتهد هم من أهل الضلال، هذا كذب وتلبيس، كلها أباطيل ما هي اجتهادات، هذا يضل في الصحابة، ويضل في العقيدة، ويضل في الأصول، ويقال لك هذه آراء اجتهادية؟!! كلام فارغ، كل هذا كذب .
الواجب اتباع الحق، يعني هذا العالم إذا فعل بدعة يحذَّر من بدعته، وإذا كان على حق فيجب أن تأخذ بهذا الحق وتنصره، عرفتم؟.. .
يقول لك: هذا مجتهد، وما هو بمجتهد، صراع في أصول الدين وفي حملته يقول لك: اجتهادات .
هناك روافض، هناك خوارج أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلهم، هناك صوفية غلاة، وهناك مرجئة، وهناك جبرية فنَّد السلف ضلالاتهم، وحذَّروا منهم، ولم يقل السلف، أو أحد منهم: هذه آراء اجتهادية »[ انظر: "المرجع السابق " (14/270-271) ] .
** حسن الظن بأهل السنة **
حسن الظن بأهل السنة أصحاب المعتقد السليم، و المنهج القويم، و حمل كلامهم على المحامل الحسنة، وإساءة الظن بأصحاب الشبه والأباطيل و الضلالات يُعتبر من صميم منهج السلف .
قال العلامة زيد بن هادي المدخلي رحمه الله كما في " الأجوبة الأثرية عن المسائل المنهجية "(ص : 93): « لا يجوز سوء الظن بأهل السنة والجماعة الذين هم متمسكون بها والموالون لأهلها.. ويجوز سوء الظن بمن أتى بأسبابه.. ».
وقال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« نـزَّه الله أهل السنة عن سوء الظن بأهل الحق وأهل السنة، وعن حسن الظن بأهل الباطل والضلال فإنه من الأسباب المردية »[ انظر: "مجموعة كتب ورسائل الشيخ " (13/363-364) ] .
وقد أسرف أهل التحزب في استغلال هذا الأصل و أكثروا من المناداة بحسن الظن، وطالبوا بتطبيقه، لكن لا على طريقة أهل السنة في إعماله في حق السلفيين الصادقين، ولكن بجعله منطلقًا في معاملة إخوانهم من أهل الأهواء والبدع، في وقتٍ نجدهم يُسيئون الظن بأهل السنة .
فهذا واحدٌ من رؤوسهم وهو المدعو عدنان عرعور يقول مُطرِّدًا أصل أهل السنة في أهل البدع : « ينبغي أن ننطلق من حسن الظن، لا من سوء الظن » .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله مُبيِّنًا مُراد عرعور بهذا الكلام:« قوله: « ينبغي أن ننطلق من حسن الظن »:
يذكرني بما كان يوصي به البنا جماعته وأتباعه: بأن يحسنوا الظن بإخوانهم، ولهذا كانت بيوت الإخوان المسلمين ومراكزهم مفتوحة لكل أهل المذاهب .
وذكر عبد المتعال الجبري في هذه الحكاية، ذكر الإباضية والزيدية والعلماء في إيران والهند وشمال أفريقيا وشمال سوريا وكذا – يعني العلماء هؤلاء يعني الباطنية، فكنا قال: نجتمع مع بعض والإسلام يسعنا، وكنا نجتمع فلا يجرح أحدٌ منا مشاعر أخيه فلا نذكر مسائل الخلاف .
فهذا عدنان أخذ بوصية البنا بإحسان الظن والمبالغة في ذلك، وحسن الظن بالخوارج والمعتزلة والمرجئة والصوفية القبورية، ولا نفضحهم بما عندهم من الضلال؛ لأن ذلك ينافي حسن الظن الذي قرره البنا، وقلده في ذلك عدنان وأمثاله »[ انظر: " المرجع السابق " (11/224-226) ] .
** وفي بيان من يجب حسن الظن به وحمل كلامه على المحامل الحسنة، ممن لا يجوز ذلك في حقه، يقول العلامة زيد المدخلي رحمه الله، مجيبًا على سؤالٍ هذا نصُّه: حمل الكلام على المحمل الحسن ذريعة يتذرع بها الكثيرون ، فنقول : ما ضابط المحمل الحسن ؟ وهل يفرق بين السني السلفي وغيره في ذلك ؟
فأجاب رحمه الله: «..الكلام الذي ينبغي أن يحمل على المحمل الحسن ويلزم حسن الظن بصاحبه هو الذي يصدر من أهل العلم الشرعي السائرين على نهج الكتاب العزيز والسنّة المطهرة بالفهم الصحيح والعاضين عليهما بالنواجذ و الذابين عنهما بما آتاهم الله من قدرات علمية وحكمة دعوية ، إن هؤلاء إذا جرى منهم أو من أحدهم حديث ما ، في أيّ موضوع ما ، وكان في حديثهم أو بعضه أو حديث بعضهم احتمال لشيء مقبول وشيء غير مقبول مثلا فإن الكلام والحالة هذه يحمل على محمل حسن ويظن بصاحبه الظن الحسن مع الحرص على بيان الأمر وتجليته بالتفصيل حتى لا يبقى التباس على الناس..
وأما المصابون بداء الجهل وأمراض الشبهات والشهوات فإنه متى صدر منهم ما فيه ضرر على الإسلام والمسلمين من بدعة مضلة أو خطأ ناتج عن هوى متبع أو إعجاب بالرأي أو اقتداء بمنهج خطؤه أكثر من صوابه ، وضرره أعظم من نفعه ، وضلاله أظهر من هدايته؛ فإن من هذا شأنهم لا ينبغي أن يحسن بهم الظن ولا تلتمس لأخطائهم المعاذير فيما دونوه بأقلامهم أو نشروه في وسائل النشر فأوصلوه إلى سمع الناس وقلوبهم ليكون لهم فتنة في دينهم وشر على المسلمين وأبنائهم ...
ومن هذا العرض المختصر يظهر لك أيها السائل الفرق بين السني السلفي والبدعي الخلفي في الأمر المذكور ، ثم إن ما نسمعه من قادة أهل الأهواء والبدع في هذا الزمان وأتباعهم المقلدين لهم من كلمات التلبيس هو جهل ومكر وذلك أنهم يستخدمون تلك الكلمات لتسويغ ما ينشره منظروهم وساستهم مما فيه هدم لبعض الأحكام الشرعية المتعلقة ببيان العقيدة السلفية الصحيحة والمنهج العلمي العملي لتحل محلها البدع الضالة المضلة كقولهم لأهل الحق : « حسنوا الظن بإخوانكم » يعنون بذلك الإخوان الحزبيين المتكتلين ضد العلماء السلفيين الذين أنكروا وينكرون على الجماعات تعددهم وتفرقهم ، واعتصامهم بمناهج مستوردة تناهض كثيرا من عواصم المنهج السلفي الحنيف »[" الأجوبة المختصرة على الأسئلة العشرة " ( ص :56 ) ] .
....يتبع بإذن الله تعالى .
http://www.tasfiatarbia.org/vb/showthread.php?t=15422