مقدمة ابن خلدون
الفصل التاسع والعشرون
في وجه الصواب في تعليم العلوم
وطريق افادته
إعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون
مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل
باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك
قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن
وعند ذلك يحصل له ملكه في ذلك العلم إلا أنها
جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأتها لفهم الفن وتحصيل مسائله ,
ثم
يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي
الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي
إلى آخر الفن فتجود ملكته ,
ثم يرجع به وقد شد فلا يترك عويصا ولا مهما
ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته .
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما
يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر .
وقد
شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته
ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه باحضار ذهنه في
حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون
عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها
فإن
قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ,
ويكون
المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب
والإجمال والأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة
مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن ,
وإذا
ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن
الاستعداد له كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن
قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم
ولا
ينبغي للعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته ,
وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا
ولا
يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على
ملكه بها ينفذ في غيره
لأن
المتعلم إذا حصل ملكه ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في
طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم
وإذا
خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر
العلم والتعليم والله يهدي من يشاء
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن
الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن
بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند
الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن
الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة
عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون
ومن
المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه
حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما
إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة وإذا تفرغ الفكر
لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله والله سبحانه وتعالى
الموفق للصواب .
وأعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك
فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة