الأحد، 6 أبريل 2014

تحذير الخلق من المذبذب بين أهل الباطل وأهل الحق



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ الفتن التي يثيرها دعاة الباطل كلما تشتد كلما يظهر فيها معادن الناس؛ فمن الناس مَنْ يشتد ساقه في هذا الفتن فتراه ثابتاً قوياً يصدع بالحق ويحذِّر من الباطل وأهله بكل شجاعة وإقدام لا يخاف في الله لومة لائم ولا سطوة ظالم، وعلامة هذا: الرسوخ في الفتنة وعدم التذبذب والاضطراب؛ لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، ومن الناس مَنْ تجره الفتنة معها فتراه يعلن الباطل وينتصر له بالتأصيلات الفاسدة والتقعيدات الكاسدة لا يبالي بالأدلة العلمية ولا بأقوال الأئمة والعلماء السلفية، وعلامة هذا: أنه لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً إلا ما أُشرب هواه.
فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر رضي الله عنه فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل فى أهله وجاره؟! قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة؛ ولكن أيكم سمع النبى صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التى تموج موج البحر؟! قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ )).

وهناك صنف ثالث من الناس بين هذين؛ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهو يتذبذب بين الصنفين كالشاة العائرة بين الفريقين، لا يدري أيهما يتبع، فيبق مع هؤلاء تارة وأخرى مع أولئك، يأتي هؤلاء بوجه ولسان ويأتي أولئك بوجه ولسان آخرين، يمشي ويجالس أهل الحق مرة ويمشي ويجالس أهل الباطل مرة أخرى.
قال تعالى: (( مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً )).
وأخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً))، وعند غيره بزيادة: (( لاَ تَدْرِي أَيَّهُمَا تَتْبَعُ )).
وأخرج البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ))، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار ))، وفي رواية: (( مَنْ كان ذا لسانين جعل الله له يوم القيامة لسانين من نار )) [انظر السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله حديث (892)].

ومثل هذا الصنف من الناس قد كثر منذ زمن بعيد، ويزداد ظهوره كلما اشتدت الفتن على أهل الحق وازدادت عليهم معاداة أهل الباطل، فهو يخشى من هؤلاء تارة ومن أولئك أخرى، ويتزلف إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة، ليس له قرار ولا مستقر، وليس له موقف واحد ولا وجهة معلومة، بل يحرص كل الحرص على عدم إظهار ما يخفيه في نفسه وسره، لأنه يخشى أن ينكشف ستره وينفضح أمره، ولكنَّ الله عزَّ وجل أبى إلا أن يفضح هذا الصنف ويكشف حاله للناس إما في لحن القول أو في بعض مواقفه وتقريراته أو في صحبته وألفته ومجالسه أو في مخرجه ومدخله.
قال تعالى: (( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ. وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ )).
وقال تعالى: ((وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ))، وهذا مثل صاحب العقيدة الخبيثة، ليس له قرار، فهو كالشجرة التي ليس لها جذر تقلبها الرياح هنا وهناك.
وقال أحد السلف: ((مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ)).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ((من فقه الرجل ممشاه، ومدخله، ومخرجه، قاتل الله الشاعر حين يقول: عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه.... فإنَّ القرين بالمقارَن يقتدي)).
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((إنما يماشي الرجل ويصاحب مَنْ يحبه ومَنْ هو مثلُه))، وقال: ((اعتبروا الناس بأخدانهم؛ فإنَّ الرجل لا يخادن إلا مَنْ يعجبه نحوه))، وقال: ((اعتبروا الأرض بأسمائها، واعتبروا الصاحب بالصاحب)).
وقال سفيان الثوري رحمه الله: ((ليس شيء أبلغ في فساد رجل وصلاحه من صاحب)).
وقال الأوزاعي رحمه الله: ((مَنْ ستر علينا بدعته لم تخف علينا ألفته))، وقال: ((يُعرف الرجل في ثلاثة مواطن: بألفته، ويعرف في مجلسه، ويعرف في منطقه)).
وقال معاذ بن معاذ رحمه الله: قلت ليحيى بن سعيد: ((يا أبا سعيد؛ الرجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه، ولا صديقه، ولا في جليسه)).
وقال محمد بن عبيدالله الغلابي رحمه الله: ((كان يقال: يتكاتم أهلُ الأهواء كلَّ شيء إلا التآلف والصحبة)).
وقال مالك بن دينار رحمه الله: ((الناس أجناس كأجناس الطير: الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله)).
وقال أبو حاتم رحمه الله: ((قدم موسى بن عقبة الصوري بغداد، فذُكِرَ لأحمد بن حنبل فقال: انظروا على مَنْ نزل؟ وإلى مَنْ يأوي؟)).
وقال عمرو بن قيس المُلَائِيُّ رحمه الله: ((إِذَا رَأَيْتَ اَلشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ اَلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَارْجُهُ، وَإِذَا رَأَيْتَهُ مَعَ أَهْلِ اَلْبِدَعِ فَايأَسْ مِنْهُ؛ فَإِنَّ اَلشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ)).
وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب الإبانة الكبرى لابن بطة، والأثر الأخير ذكره أيضاً ابن مفلح عن الإمام أحمد في الآداب الشرعية.
وقد نقل الإمام ابن بطه رحمه الله في الإبانة الكبرى أيضاً بسنده عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: ((الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالي صاحب بدعة إلا من النفاق))، قال ابن بطه معقباً:صدق الفضيل رحمة الله عليه، فإنا نرى ذلك عياناً، ثم ذكر بعده أنه قيل للأوزاعي: إنَّ رجلاً يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع؟فقال الأوزاعي: ((هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل))، وعقَّب ابن بطه فقال:صدق الأوزاعي؛ أقول: إنَّ هذا رجل لا يعرف الحق من الباطل، ولا الكفر من الإيمان، وفي مثل هذا نزل القرآن، ووردت السنة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛قال الله تعالى: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكموذكر حديث (الشاة العائرة بين الفريقينثم قال: ((كثر هذا الضرب من الناس في زماننا هذا!، لا كثَّرهم الله، وسلَّمنا وإياكم من شر المنافقين، وكيد الباغين، ولا جعلنا وإياكم من اللاعبين بالدين، ولا من الذين استهوتهم الشياطين، فارتدوا ناكصين، وصاروا حائرين)).

ومثل هذا الصنف من الناس شديد الفتنة على أهل السنة، بل فتنته عليهم أشد من فتنة المبتدعة الظاهرين!، لأنه يُظهر السنة ويبطن خلافها، ويحاول بأساليب ملتوية ظاهرها الخير والمصلحة والرحمة وباطنها المكر والخديعة والمكيدة والمراوغة، وغرضه من ذلك التثبيط أو التخذيل أو الإفساد أو التفريق أو التنفير أو التأليب أو الطعن في السنة وأهلها من الداخل.
قال تعالى: ((لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [المجموع 233-234]: ((فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبُدِّل الدين؛ كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سمَّاعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقًا؛ وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: "لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم"، فلا بد أيضًا من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم!!، فإنَّ فيهم إيمانًا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإنْ اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم؛ بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك؛ لوجب بيان حالها)).

وقد يكون سبب هذا التذبذب هو إتباع الهوى والتلون في الدين؛ فقد أخرج عبدالرزاق في مصنفه عن معمر عن قتادة قال معمر: وكتب به إلي أيوب السختياني: أنَّ أبا مسعود الأنصاري دخل على حذيفة رضي الله عنه، فقال: أوصنا يا أبا عبدالله، فقال حذيفة: أما جاءك اليقين؟! قال: بلى وربي، قال: ((فإنَّ الضلالة حق الضلالة: أن تعرف اليوم ما كنت تنكر قبل اليوم، وأن تنكر اليوم ما كنت تعرف قبل اليوم، وإيَّاك والتلون، فإنَّ دين الله واحد))،
وروى الآجري عن معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يوماً من المسجد، وهو متكئ على يدي فلحقه رجل، يقال له أبو الجيرية كان يتهم بالإرجاء، فقال يا عبدالله: اسمع مني شيئاً أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي. فقال مالك: فإن غلبتني، قال: إن غلبتك اتبعتني، قال: فإنْ جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا، قال: نتبعه، قال مالك: يا عبدالله بعث الله محمداً بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين، ثم ذكر قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.

وقد يكون سببه عدم المعرفة أو عدم التمييز بين الحق والباطل وعدم التفريق بين أولياء الله وأولياء الشيطان؛ فمَنْ كان حاله كذلك فالواجب أن يُعرَّف الحق والباطل ويُعرَّف بأهل السنة وأهل البدع، ويُبيَّن له ذلك بالأدلة والبراهين، ويكون ذلك بالتلطف والرفق وبالصبر والمناصحة لعلَّ الله عزَّ وجل أن يشرح صدره للهدى، فإن أصرَّ وعاند ولم ينقاد للأدلة والحجج بعد بيان الحق والنصيحة له، وصار يلتمس المعاذير لأهل الباطل ويجادل عنهم ولا يقبل الكلام فيهم ويتكلَّف لهم التأويلات المتعسِّفة؛ فهذا يُحذَّر منه، ولا يُمكن أن ينصح به ولا يطمئن إليه، بل مثله يلحق بأهل البدع الذين يدافع عنهم ويجادل، ولا كرامة.

وإليكم إخواني الأكارم أقول أهل العلم قديماً وحديثاً في التحذير من هذا الصنف من الناس:
1- روى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن عقبة بن علقمة قال: ((كنتُ عند أرطأة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس: ما تقولون في الرجل يجالس أهل السنة ويخالطهم؛ فإذا ذُكر أهلُ البدع قال: دعونا من ذكرهم لا تذكروهم؟ فقال أرطأة: "هو منهم لا يلبس عليكم أمره"، قال: فأنكرتُ ذلك من قول أرطأة، فقدمتُ على الأوزاعي وكان كشَّافاً لهذه الأشياء إذا بلغته!، فقال: "صدق أرطأة، والقول ما قال، هذا ينهي عن ذكرهم، ومتى يُحذروا إذا لم يشاد بذكرهم؟!")). وقال الأوزاعي رحمه الله: ((إذا رأيته يمشي مع صاحب بدعة، وحلف أنه على غير رأيه فلا تصدقه)).

2- وأخرج اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بسنده عن الفضيل بن عياض رحمه الله أنه قال: ((مَنْ جلس مع صاحب بدعة فاحذره))، وقال: ((وعلامة النفاق: أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة)).

3- وقال سفيان الثوري رحمه الله: ((مَنْ ماشى المبتدعة عندنا: فهو مبتدع)).
وأخرج ابن بطه في الإبانة: لما قدم سفيان الثوري البصرة، جعل ينظر إلى أمر الربيع بن صبيح وقدره عند الناس، سأل أي شيء مذهبه؟ قالوا: ما مذهبه إلا السنة، قال: مَنْ بطانته؟، قالوا: أهل القدر، قال: هو قدري.
وقد علَّق ابن بطة رحمه الله تعالى على هذا الأثر بقوله: ((رحمة الله على سفيان الثوري؛ لقد نطق بالحكمة فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة وما توجبه الحكمة ويدركه العيان، ويعرفه أهل البصيرة والبيان؛ قال الله جل وعلا: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عنتم")).

4- أخرج الدارمي في مسنده عن أيوب السختياني قال: ((رآني سعيد بن جبير جلستُ إلى طلق بن حبيب، فقال لي: ألم أرك جلستَ إلى طلق بن حبيب؟! لا تجالسه)).
وأخرج ابن بطه في الإبانة بسنده عن أيوب: أنه دعي إلى غسل ميت، فخرج مع القوم ، فلما كشف عن وجه الميت عرفه فقال : ((أقبلوا قِبَلَ صاحبكم، فلستُ أغسله، رأيته يماشي صاحب بدعة)).

5- وذكر ابن بطة في الإبانة عن ابن عون رحمه الله أنه قال: ((الذي يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع)).
وقال ابن وضاح في البدع والنهي عنها: أخبرنا إسماعيل بن سعد البصري عن رجل أخبره قال: ((كنتُ أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني شهرين)).

6- وذكر ابن بطه في الإبانة عن عتبة الغلام رحمه الله أنه قال: ((مَنْ لم يكن معنا فهو علينا))، فليس ثمة منزلة بين منزلتين، إما أن يكون مع أهل السنة، وإما أن يكون مع ضدهم.

7- وفي طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى: قال عثمان بن إسماعيل السكري سمعتُ أبا داود السجستاني يقول: قلتُ لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟ قال: ((لا، أو تُعلمه أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة؛ فإن ترك كلامه فكلِّمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"المرء بخدنه")).

وفي المصدر نفسه: قال الخلال أخبرنا المروذي: أنَّ أبا عبدالله ذكر حارثاً المحاسبي فقال: ((حارث أصل البلية - يعني حوادث كلام جهم - ما الآفة إلا حارث، عامة مَنْ صحبه انتهك إلا ابن العلاف؛ فإنه مات مستوراً!، حذِّروا عن حارث أشدَّ التحذير)) قلت: إنَّ قوماً يختلفون إليه؟ قال: ((نتقدم إليهم لعلهم لا يعرفون بدعته؛ فإنْ قبلوا وإلا هجروا، ليس للحارث توبة، يُشهد عليه ويجحد، إنما التوبة لمن اعترف)).

وقال إسحاق: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: ((أخزى الله الكرابيسي لا يُجالس ولا يُكلَّم ولا تكتب كتبه، ولا يُجالس مَنْ يُجالسه))، وقال أيضاً: ((إياك إياك وحسين الكرابيسي، لا تكلِّمه، ولا تكلِّم مَنْ يكلِّمه)) أعاد ذلك أربع مرات أو خمس مرات!.

8- قال ابن الحاج رحمه الله في [حز الغلاصم في إفحام المخاصم ص110]: ((إذ يقول في سورة مكية: "وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين"، وقد بيَّن الله سبحانه عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمره الله إذ يقول في سورة مدنية: "وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم أيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إنَّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً. فبيَّن سبحانه بقوله: "وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ" ما كان أمرهم به من قوله في السورة المكيّة "فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، ثم بيَّن في هذه السورة المدنية أنَّ مجالسة مَنْ هذه صفته لحوقٌ به في اعتقاده، وقد ذهب قوم من أئمة هذا الأمة إلى هذا المذهب، وحكم بموجب هذه الآيات في مُجالِس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة؛ منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك، فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع قالوا: يُنهى عن مجالستهم، فإن انتهى وإلا أُلحق بهم؛ يعنون في الحكم، قيل لهم: فإنه يقول: إني أجالسهم لأباينهم وأرد عليهم؟ قالوا: ينهى عن مجالستهم فإنْ لم ينته أُلحق بهم)).

9- وقال ابن بطة رحمه الله في [الإبانة ص262]: ((ولا تشاور أحداً من أهل البدع في دينك، ولا ترافقه في سفرك، وإن أمكنك أن لا تقربه في جوارك. ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه - أي من البدع - وهجرانه والمقت له، وهجران مَنْ والاه ونصره وذبَّ عنه وصاحبه وإنْ كان الفاعل لذلك يظهر السنة!)).

10- وقال البربهاري رحمه الله في [شرح السنة ص121]: (وإذا رأيتَ الرّجلَ يَجلسُ مع رجلٍ من أهلِ الأهواءِ فَحَذِّرْهُ وعَرِّفْهُ؛ فإن جَلَسَ معه بعدما عَلِمَ فاتّقِهِ، فإنَّه صاحبُ هوىً).

11- ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [درء تعارض العقل والنقل 2/97]: ((قال الشيخ أبو الحسن الكرجي: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الراذقاني يقول: كنتُ في درس الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان ينهى أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أنَّ نفراً من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصة في آخرها: إنَّ الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني؛ بلغني أنك تدخل على هذا الرجل يعني الباقلاني، فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي. فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل، وتائب إليه، واشهدوا عليَّ أني لا أدخل عليه)).

12- وذكر ابن وضاح في البدع والنهي عنها والشاطبي في الاعتصام عن حميد الأعرج قال: ((قدم غيلان مكة يجاور بها، فأتى غيلان مجاهدًا فقال: يا أبا الحجاج؛ بلغنى أنك تنهى الناس عني وتذكرني، وأنه بلغك عني شيء لا أقوله، إنما أقول كذا، فجاء بشيء لا ينكر!، فلما قام قال مجاهد: لا تجالسوه فإنه قدري. قال حميد الأعرج: فإني يوماً في الطواف لحقنى غيلان من خلفي يجذب ردائي، فالتفتُّ فقال: كيف يقول مجاهد خرفاً كذا وكذا، فأخبرته، فمشى معي، فبصر بي مجاهد معه، فأتيته فجعلتُ أكلِّمه فلا يرد علي، وأسأله فلا يجيبني، فغدوتُ إليه فوجدته على تلك الحال، فقلتُ: يا أبا الحجاج؛ أبلغك عني شيء؟! ما أحدثتُ حدثاً!، ما لي؟! قال: ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلِّموه أو تجالسوه؟ قلت: يا أبا الحجاج ما أنكرت قولك، وما بدأته، وهو بدأنى. قال: والله يا حميد؛ لولا أنك عندى مصدق ما نظرت لي فى وجه منبسط ما عشت، ولئن عدتَ لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت)).

13- وقال شيخ الإسلام رحمه الله في بيان ما يُجرح به المرء [المجموع35/414]: ((وأما إذا كان المقصود التحذير منه واتقاء شره فيكتفى بما دون ذلك؛ كما قال عبد الله بن مسعود: "اعتبروا الناس بأخدانهم"، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رجلا يجتمع إليه الأحداث فنهى عن مجالسته، فإذا كان الرجل مخالطاً في السير لأهل الشر يُحذَّر منه)).

وقال أيضاً في [المجموع 2/132-133]: ((وهكذا هؤلاء الاتحادية؛ فرؤوسهم هم أئمةُ كفرٍ، يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحدٌ منهم إذا أُخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون أعظم الكفر، وهم الذين يفهمون قولهم ومخالفتهم لدين المسلمين. ويجب عقوبة كل مَنْ انتسب إليهم، أو ذبَّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عَظَّمَ كتبهم، أو عرف بمساعدتـهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأنَّ هذا الكلام لا يدري ما هو؟!، أو قال: إنَّه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق!. بل تجب عقوبة كل مَنْ عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم!. فإنَّ القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنـَّهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادًا، ويصدون عن سبيل الله. فضررهم في الدين أعظم من ضرر مَنْ يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم؛ كقطاع الطريق وكالتتار الذين يأخذون منهم الأموال ويبقون لهم دينهم، ولا يستهين بهم مَنْ لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أعظم من أن يوصف، وهم أشبه الناس بالقرامطة الباطنية، ولهذا هم يريدون دولة التتار ويختارون انتصارهم على المسلمين؛ إلا مَنْ كان عامياً من شيعهم وأتباعهم، فإنه لا يكون عارفًا بحقيقة أمرهم!. ولهذا يقرون اليهود والنصارى على ما هم عليه، ويجعلونهم على حق، كما يجعلون عباد الأصنام على حق، وكل واحدة من هذه من أعظم الكفر!.
ومن كان محسناً للظن بهم وادَّعى أنه لم يعرف حالهم: عُرِّفَ حالهم، فإنْ لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلا أُلِحق بهم وجعل منهم!. وأما مَنْ قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة!؛ فإنه من رؤوسهم وأئمتهم!، فإنه إنْ كان ذكياً فإنه يعرف كذب نفسه فيما قاله، وإن كان معتقداً لهذا باطناً وظاهراً فهو أكفر من النصارى!؛ فمَنْ لم يُكفِّر هؤلاء، وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتحاد أبعد، والله أعلم)).

14- وقال الشيخ حمود التويجري رحمه الله في [القول البليغ ص230] بعد أن نقل رواية الإمام أحمد في التعريف بالمبتدع قبل الإلحاق به؛ وقد تقدم ذكرها: ((وهذه الرواية عن الإمام أحمد ينبغي تطبيقها على الذين يمدحون التبليغيين، ويجادلون عنهم بالباطل. فمن كان منهم عالماً بأنَّ التبليغيين من أهل البدع والضلالات والجهالات، وهو مع هذا يمدحهم، ويجادل عنهم؛ فإنّه يلحق بهم، ويعامل بما يعاملون به، من البغض والهجر والتجنُّب، ومن كان جاهلاً بهم، فإنه ينبغي إعلامه بأنهم من أهل البدع والضلالات والجهالات، فإنْ لم يترك مدحهم والمجادلة عنهم بعد العلم بهم فإنه يُلحق بهم، ويُعامل بما يُعاملون به)).

15- وسُئل الشيخ ابن باز رحمه الله كما في شريط مسجَّل في تعليقه على كتاب [فضل الإسلام]: الذي يثني على أهل البدع ويمدحهم؛ هل يلحق بهم؟! فأجاب: ((نعم ما فيه شك، مَنْ أثنى عليهم ومدحهم هو داع لهم، يدعو لهم، هذا من دعاتهم!، نسأل الله العافية)).

16- وقال الشيخ أحمد النجمي رحمه الله: ((وبالجملة فإن الأدلة من الكتاب و السنة وعمل السلف الصالح أن من آوى أهل البدع أو جالسهم أو آكلهم أو شاربهم أو سافر معهم مختاراً: فإنه يلحق بهم، لا سيما إذا نُصِحَ وأصرَّ على ما هو عليه؛ حتى ولو زعم أنه إنما جالسهم ليُناصِحَهم)).

17- وقال الشيخ د. صالح الفوزان حفظه الله في [ظاهرة التبديع ص45]: ((فالواجب إتباع المستقيم على السنة الذي ليس عنده بدعة، وأما المبتدع فالواجب التحذير منه، والتشنيع عليه حتى يحذره الناس، وحتى ينقمع هو وأتباعه. وأما كون عنده شيء من الحق فهذا لا يبرر الثناء عليه أكثر من المصلحة، ومعلوم أنَّ قاعدة الدين: "إنَّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، وفي معاداة المبتدع درأ مفسدة عن الأمة ترجح على ما عنده من المصلحة المزعومة إنْ كانت!. ولو أخذنا بهذا المبدأ لم يضلل أحد!، ولم يبدع أحد!، لأنه ما من مبتدع إلا وعنده شيء من الحق، وعنده شيء من الالتزام. المبتدع ليس كافراً محضاً، ولا مخالفاً للشريعة كلها، وإنما هو مبتدع في بعض الأمور، أو غالب الأمور؛ وخصوصاً إذا كان الابتداع في العقيدة وفي المنهج، فإنَّ الأمر خطير، لأنَّ هذا يصبح قدوة، ومن حينئذ تنتشر البدع في الأمة، وينشط المبتدعة في ترويج بدعهم.
فهذا الذي يمدح المبتدعة ويشبِّه على الناس بما عندهم من الحق هذا أحد أمرين: إما جاهل بمنهج السلف ومواقفهم من المبتدعة؛ وهذا الجاهل لا يجوز أن يتكلم!، ولا يجوز للمسلمين أن يستمعوا له!، وإما أنه مغرض لأنه يعرف خطر البدعة ويعرف خطر المبتدعة ولكنه مغرض يريد أن يروِّج للبدعة؛ فعلى كلٍ هذا أمر خطير، وأمر لا يجوز التساهل في البدعة وأهلها مهما كانت)).

18- وقال الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله تعالى في مقدمة كتابه [منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف]: ((ويجوز - بل يجب - الكلام في أهل البدع، والتحذير منهم ومن بدعهم أفراداً وجماعات، الماضون منهم والحاضرون؛ من الخوارج والروافض والجهمية والمرجئة والكرامية وأهل الكلام الذين جرهم علم الكلام إلى عقائد فاسدة مثل: تعطيل صفات الله أو بعضها، فهؤلاء يجب التحذير منهم ومن كتبهم وطرقهم الضالة، وما أكثرها، وكذلك من سار على نهجهم من الفرق (الجماعات) المعاصرة ممن باين أهل التوحيد والسنة ونابذهم وجانب مناهجهم، بل حاربها ونفر عنها وعن أهلها، ويلحق بهم: مَنْ يناصرهم ويدافع عنهم، ويذكر محاسنهم ويشيد بها، ويشيد بشخصياتهم وزعمائهم، وقد يفضِّل مناهجهم على منهج أهل التوحيد والسنة والجماعة)).

أقول:
فهذه الأقوال تدل على التحذير من هذا الصنف من الناس الذي يكون حالهم بين بين!، تارة يجالسون أهل السنة ويتكلمون بألسنتهم، وتارة يجالسون أهل البدع ويتكلمون بألسنتهم، فهم متذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!.

وإنما السبب في التحذير من هؤلاء يعود إلى عدة أمور:
1- عدم انقياد هذا الصنف من الناس لتحذيرات الكتاب والسنة وتوجيهات العلماء في عدم مجالسة أهل البدع، ومعلوم أنَّ أئمة السنة قد حذَّروا في آثار كثيرة من مجالسة أو مصاحبة أهل البدع، هذا بالإضافة إلى الأدلة الشرعية، وقد نقل الإجماع على التحذير من مجالسة المبتدعة غير واحد من أهل العلم.

فمَنْ لم ينقد لهذه الأدلة ولم يمتثل لهذا الإجماع فهو مخالف لمنهج السلف، ويستحق العقوبة من التحذير والهجر؛ فكيف بمَنْ يجادل عن أهل البدع وينتصر لهم ويثني عليهم ويلتمس لهم المعاذير؟! هذا داعية من دعاتهم، فلا ينبغي أن يُلبِّس أمثال هؤلاء على الشباب السلفي ولا أن ينخدعوا بهم.

2- أنَّ أمثال هؤلاء لا يرون أنَّ التمييز بين الحق والباطل والتفريق بين أهل السنة وأهل البدع مقصد مطلوب شرعاً، وحقيقة منهجهم أو لسان حالهم قائم على احتواء المختلفين وإعذار المخالفين دون النظر إلى حجم المخالفة ولا إلى مواضع النزاع والإجماع ولا إلى حال المخالف وطريقته في التلقي والاستدلال والتأصيل، وهذا هو منهج الإخوان المسلمين ومَنْ تأثر بهم، وهو مبني على قاعدة: ((نتعاون على ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)).

3- أنَّ أمثال هؤلاء قد لا يصرِّحون بمخالفة أهل السنة وموافقة المبتدعة في تأصيلاتهم في هذا الوقت لمهابة أهل الحق في نفوسهم وخشيتهم من تجريحهم ومقاطعتهم، وهم ينتظرون الفرصة لإظهار منهجهم، فهم يستقطبون الشباب حولهم فترة من الزمان، فإذا قوي أحدهم وتمكَّن وصار له جماعة تتحزَّب له وتتعصب أعلن ضلاله، ولا يبالي بعد ذلك لأحد.

4- أنَّ أكثر هؤلاء أهل جدل وسفسطة ومراوغة، تظهر لهم الأدلة الصريحة والبراهين القاطعة على ضلال المبتدعة الذين يجالسونهم ويثنون عليهم، ومع هذا يلتمسون لهم المعاذير ولا يقبلون الكلام فيهم.

5- أنَّ هؤلاء سائرون على قاعدة الموازنة بين المحاسن والمساوئ في نقد الأشخاص؛ وإن لم يصرِّحوا بها، فبعض مواقفهم وأحوالهم وتلميحاتهم وطريقة ردهم ونقدهم للمخالفين تشعر بذلك.

6- أنَّ هؤلاء يجيزون طلب العلم على أهل البدع بدعوى مشروعية أخذ الحق من كل أحد أو بدعوى جواز الرواية عن أهل البدع، وهذه دعاوى بعيدة عن الحقيقة، لأنَّ مسألة أخذ الحق من كل أحد لا تعني الدراسة عليه، وإنما تعني لو أنه قال كلمة الحق فلا يجوز إنكارها والواجب قبولها، لأنَّ الحق يجب قبوله لدلالة الشرع عليه بغض النظر عن قائله، فالشرع هو الذي أمرنا أن نقبل الحق وننقاد له، فأخذه من أهل البدع إن صدر منهم في كتاب أو شريط هو متابعة للدليل. وأما قياس طلب العلم على جواز الرواية عن المبتدعة فقياس مع الفارق؛ لأنَّ تجويز الرواية عن المبتدعة المعروفين بالصدق في الحديث كان في وقت تدوين السنة، ولو أعرض العلماء بالكلية عن الرواية عنهم لضاع الكثير من الأحاديث، فالضرورة الشرعية هي التي دعت إلى أخذ الراوية عنه حفظاً للدين وصيانة للشريعة، والرواية عنهم ليس فيها طلب للعلم على أيديهم حتى يخشى من دسهم للسم والغث في الكلام، وأما طلب العلم على المبتدعة فلا يخلو من ذلك في الغالب؛ لأنه غير محصور في رواية الحديث، بل يشتمل على الكلام في الحديث دراية وفقهاً وشرحاً، وما في ذلك من تقريرات وتأصيلات وتخريجات، وأنى لمثل هذا المجالس أن تخلو من دس السم في العسل؟!، ثم لا محال أن يتأثر الطالب بشيخه المبتدع إما في طبعه وعادته وإما في إسلوبه وطريقته، ومثل هذه تزيد المودة في القلب والثناء على اللسان بطبيعة الحال، وفوارق أخرى بين طلب العلم والراوية، فلا يقاس هذا على هذه.

7- أنَّ أكثر هؤلاء عنده ثقة زائدة بنفسه؛ فيزعم أنه لا يتأثر بمجالسة أهل البدع، وأنَّ عنده من العلم والأهلية ما يمكن له أن يميز بين الغث والسمين وأن يرد الباطل إذا صدر منهم، وهؤلاء يكلهم الله إلى أنفسهم ويولِّهم ما تولَّوا، ومَنْ كان هذا حاله فلا تسأل عن هلاكه وضياعه وعاقبته.

8- أنَّ هؤلاء يتأثرون ببعض مظاهر أهل البدع كفصاحة اللسان وحسن المنطق وكثرة التقريرات والتأصيلات والتفريعات والتخريجات والتحقيقات، أو يغترون بهديهم وسمتهم وطريقة كتابتهم أو إلقاهم أو ما يظهر منهم من الخشوع واللين والأدب.

9- وبعض هؤلاء يزعم أنه يجالس المبتدعة من باب المناصحة أو المناظرة مع كونه ليس أهلاً لذلك، فيذهب إلى بيوت أهل البدع ومجالسهم - أمام أنظار العامة ممن يغتر به ويقتدي! - وينبسط في الكلام معهم ويستأنس معهم في الحديث ويطرح بعض المسائل للمناقشة والأخذ والرد من باب الرأي والرأي الآخر!، وليس من باب بيان الحق ورد الباطل وإقامة الحجة عليهم، ولا بد أن يعلم هؤلاء أنَّ شبه المبتدعة خطَّافة والقلوب ضعيفة، ولقد كان أئمة السلف يحذرون ويُحذِّرون من مناظرة أهل البدع والدخول معهم في مجادلات عقيمة، وكان أحدهم لا يقبل السماع من أهل البدع كلمة ولا نصف كلمة ولا آية من كتاب الله يتلوها عليه!، لأنهم يخشون على أنفسهم، ويعرفون أنَّ عصمة الله لهم من الفتن مشروطة بعدم مجالسة أهل البدع والسماع منهم، فكيف ببعض الشباب الذي لم يتمكن من تحرير المسائل وتحقيق وجه الحق فيها؟! فدعوى هؤلاء المتعالمين أنهم يناصحون أهل البدع ليس لها حقيقة في الواقع ولا لها قبول في الشرع ومنهج السلف الصالح، فلا ينخدع السلفيون بهذه الدعاوى.

ثم لا بد أن نعلم أنَّ مناظرة المبتدعة أو مناصحتهم - إن اقتضت الحاجة لها - إنما تكون عند حضورهم في مجالس أهل الحق، أو في رسائل خاصة أو في ردود معلنة، من غير أن يكون فيها تغرير للعامة ولا توقير لأهل البدع.

10- وبعضهم يرفض إلحاق مَنْ لا يبدِّع المبتدعة ويجالسهم ويصاحبهم بهم مطلقاً!، وهذه مخالفة لمنهج السلف الذي تقدَّم ذكر أقوالهم في بيانه، بل مخالفة لقوله تعالى: ((وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ؛ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا))، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ))، نعم إطلاق القول بجواز هذه القاعدة لا يجوز أيضاً، وإنما يُعرَّف هذا الذي لا يبدِّع المبتدعة ويصاحبهم ويجالسهم بحال المبتدعة من خلال عرض الأدلة الصريحة والبراهين القاطعة على انحرافهم وضلالهم، فإن أصرَّ بعد ذلك على ما كان منه فإنه يلحق بالمبتدعة، كما تقدَّم ذلك في أقوال العلماء.

وأخيراً:
أختم هذا النصيحة بهذه الكلمات السلفية:
قال الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى كما في [البدع والنهي عنها لابن وضاح ص54، والاعتصام للشاطبي 1/130]:
(( مَنْ جالس صاحبَ بدعة لم يسلم من إحدى ثلاثة:
- إما أن يكون فتنةً لغيره.
- وإما أن يقع في قلبه شيءٌ فيزل به فيدخله الله النار.
- وإما أن يقول: والله ما أبالي ما تكلَّموا، وإني واثقٌ بنفسي!!؛ فمن أمِنَ اللهَ على دينهِ طرفة عين سلبه إياه
)).

وقال الإمام ابن بطة رحمه الله تعالى كما في [الإبانة الكبرى 1/390]: ((اعلموا إخواني أني فكرتُ في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين:
أحدهما: البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا يغني، ولا يضر العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه.
والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوب صحبته)).

وقال العلامة ابن وضاح في البدع والتحذير منها: ((أخبرني غير واحد أنَّ أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات: "إياك أن يكون لك من أهل البدع أخٌ أو جليس أو صاحب؛ فإنه جاء في الأثر: "مَنْ جالس صاحب بدعة نُزِعَت منه العصمة ووكِّل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة فقد مشى في هدم الإسلام، وقد وقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع، وأنَّ الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ولا فريضةً ولا تطوعاً، وكلَّما زادوا اجتهاداً وصوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً؛ فارفض مجالسهم وأذلَّهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده)).

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: ((مَنْ جلس مع صاحب بدعة لم يؤت الحكمة))، وقال: ((مَنْ دخل على صاحب بدعة فليست له حرمة)).

وقال علي بن أبي خالد: قلتُ لأحمد بن حنبل: إنّ هذا الشيخ - لشيخ حضر معنا - هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حارث القصير - يعني حارثاً المحاسبي - وكنتَ رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلتَ لي: لا تجالسه، فما تقول فيه؟!
فرأيت أحمد قد احمرَّ لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه، وما رأيته هكذا قط، ثم جعل ينتفض، ويقول: ذاك؛ فعل الله به وفعل، ليس يعرف ذاك إلا من خَبَره وعرفه، أوّيه، أوّيه، أوّيه، ذاك لا يعرفـه إلا من قد خبره وعرفه، ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان، فأخرجهم إلى رأي جهم، هلكوا بسببه!.
فقال له الشيخ: يا أبا عبـدالله، يروي الحديث، ساكنٌ، خاشعٌ، من قصته، ومن قصته.
فغضب أبو عبدالله، وجعل يقول: لا يغرَّك خشوعه ولِينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سـوء، ذاك لا يعرفه إلا مَـنْ خبره، لا تكلِّمه، ولا كرامة له، كل مَنْ حدَّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مبتدعاً تجلس إليه؟! لا، ولا كرامة ولا نُعْمَى عين، وجعل يقول: ذاك، ذاك. [انظر طبقات الحنابلة ( 1/234)]

وقال الإمام البربهاري رحمه الله في شرح السنة: ((اعلم أنَّ الخروج عن الطريق على وجهين: أما أحدهما فرجل قد زلَّ عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير فلا يُقتدى بزلـله فإنه هالك، ورجل عاند الحق وخالف مَنْ كان قبله من المتقين فهو ضال مضل شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من عرفه أن يحذِّر الناس منه ويبين لهم قصته؛ لئلا يقع في بدعته أحد فيهلك)).

وسئل العلامة الشيخ أحمد النجمي رحمه الله كما في [فتاوى شرح صحيح مسلم 1/8-9]: ما حكم الدراسة عند أهل البدع بهذه الشروط: علم لا يوجد عند أهل السنة، أو يوجد ولكن لم يوافقوا، أو لم يتفرغوا للتدريس. عنده بدع مثل الانتساب للإخوان المسلمين ولكن لا يدعو إلى هذا، وغير مشهور في هذا التنظيم. أنت بحاجة إلى بناء كيانك العلمي، فماذا تفعل؟ وما هو التوجيه؟ وجزاكم الله خيراً.

الجواب: ((الذي يترجَّح لي أنَّ المبتدع ينبغي ألاَّ يُدرَس عليه؛ لأنَّه ربما يُدخِل بدعته في دروسه ويحببها للطلاب، وينشرها بواسطة الدروس، وكم من طالب علمٍ بدأ على طريقةٍ سلفية صحيحة، ثمَّ انتسب إلى شيخ وجالسه كثيراً حتى حوَّله عمَّا هو عليه؟! فينبغي لطالب العلم السلفي الذي يريد الحق ألاَّ يدرس على المبتدع؛ لأنَّه إذا درس عليه عظَّمه، ولايجوز تعظيم أهل البدع؛ والأمر الثاني: أنَّه لايؤمَن أن يُدخِل عليه شيئاً من بدعه ويحببها، ويقبلها هذا الطالب من حيث أنَّه لا يدري!)).

أقول:
ورحم الله القحطاني الذي قال في نونيته:
لا يَصْحَبُ البِدْعِيَّ إلاّ مثلُهُ.......تَحتَ الدُّخانِ تأَجُّجُ النِيرانِ

وأسأل الله تعالى أن يعصمنا من مضلات الفتن، وأن يحفظ قلوبنا من شبهات أهل البدع، وأن يرزقنا البصيرة في الدين، وأن يوفِّقنا إلى السداد في أقوالنا وأفعالنا. والحمد لله رب العالمين.


 منقول من مقال للشيخ رائد آل طاهر
 http://www.sahab.net/forums/index.php?showtopic=129404

إعلامُ النَّبْهِ أَنَّه لا يقاس (المبتدعُ) على (العاصي) في (المحبةِ والموالاةِ مِن وَجْهِ)



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فإنَّ من أصول أهل السنة والجماعة التي تميزوا بها عن الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة: أنَّ أهل المعاصي يحبون ويوالون من جهة، ويبغضون ويعادون من جهة أخرى، فلا يعطىون المحبة والموالاة كلها كما تزعم المرجئة، ولا يسلبون المحبة والموالاة كلها كما تزعم الخوارج، وإنما يحبون ويوالون من جهة إيمانهم، ويبغضون ويعاودن من جهة ذنوبهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [المجموع 35/94-95]: ((والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته تابعاً لأمر الله ورسوله، فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله.
ومَنْ كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض؛ بحسب ما فيهم من البر والفجور، فإنَّ "من يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف الخوارج والمعتزلة، وبخلاف المرجئة والجهمية؛ فإنَّ أولئك يميلون إلى جانب، وهؤلاء إلى جانب، وأهل السنة والجماعة وسط)).
وقد استغل مميعة العصر هذا الأصل استغلالاً فاسداً يدخل من باب تحريف الكلم عن موضعه، فزعموا أنَّ أهل البدع يُحبون ويوالون ويمدحون ويكرمون من جهة موافقتهم للسنة، ويبغضون ويعادون ويذمون ويهانون من جهة ابتداعهم ومخالفة السنة، وزعموا أنَّ هذا من باب القياس على أهل المعاصي الشهوانية، أو أنه لا فرق بين المبتدع والعاصي في ذلك لكونهم جميعاً يدخلون في فسَّاق أهل الملة.
ثم لما أصَّلوا هذا الأصل الفاسد ذهبوا يبحثون في الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من سلف الأمة الصالح ليستدلوا به فلم يجدوا ما يؤيد باطلهم!، فأكثروا البحث في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فما وجدوه إلا مبغضاً لأهل البدع معاد لهم منكِّلاً بهم محذِّراً منهم على وجه الإطلاق والتعيين.
لكنهم وجدوا له كلاماً مشتبهاً في موضع ما ففرحوا به كثيراً ونشروه في مواطن عديدة على اختلاف أصنافهم وأشكالهم، وهذا الكلام هو قوله رحمه الله في [المجموع 28/209]: ((وليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإنْ ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإنْ أعطاك وأحسن إليك.
فإنَّ الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله؛ فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد: خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومَنْ وافقهم عليه؛ فلم يجعلوا الناس إلا مستحقاً للثواب فقط، وإلا مستحقاً للعقاب فقط)).
وأيده بعضهم بكلام آخر له رحمه الله وهو قوله [المجموع 10/366]: ((وإنه كثيراً ما يجتمع في الفعل الواحد أو في الشخص الواحد الأمران؛ فالذم والنهي والعقاب قد يتوجه إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، كما يتوجه المدح والأمر والثواب إلى ما تضمنه أحدهما فلا يغفل عما فيه من النوع الآخر، وقد يمدح الرجل بترك بعض السيئات البدعية والفجورية لكن قد يسلب مع ذلك ما حمد به غيره على فعل بعض الحسنات السنية البرية، فهذا طريق الموازنة والمعادلة، ومَنْ سلكه كان قائماً بالقسط الذي أنزل الله له الكتاب والميزان)).
فحمل أهل التمييع هذين النقلين على أهل البدع!، وزعموا أنَّ المبتدع الذي يوافق أهل السنة في بعض المسائل يحب ويوالى ويمدح من هذه الجهة، ويبغض ويعادى ويذم من جهة ابتداعه ومخالفة السنة.
وليس لهم في ذلك حجة إلا الهوى أو الجهل!.
وإنما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمَنْ كان من أهل السنة وعنده بدعة وقعت منه عن اجتهاد أو تأويل أو شبهة؛ مثل أبي إسماعيل الهروي صاحب "منازل السائرين"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [منهاج السنة 5/241]: ((وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله وأمثاله من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ومن المعظمين لله ورسوله باطناً وظاهراً المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابين عنها، وقعوا في هذا غلطاً لا تعمداً، وهم يحسبون أنَّ هذا نهاية التوحيد كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين؛ مع علمه وسنته ومعرفته ودينه، وقد ذكر في كتابه منازل السائرين أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة)).
وقال [المصدر السابق 5/249]: ((أما الفناء الذي يذكره "صاحب المنازل" فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما تقول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره. وشيخ الإسلام وإنْ كان رحمه الله من أشدِّ الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنَّف كتابه "الفاروق" في الفرق بين المثبتة والمعطلة، وصنف كتاب "تكفير الجهمية" وصنف كتاب "ذم الكلام وأهله"، وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات؛ لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب)).
قلتُ:
فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يتكلَّم عن شخص واحد تجتمع فيه السنة والبدعة، وهذا الوصف لا يُطلق إلا على مَنْ كان من أهل السنة لكنه وقع في بدعة عن احتهاد سائغ، لأننا لو جوَّزنا إطلاق هذا الوصف على أهل البدع أيضاً؛ لما خرج أحدٌ منهم من السنة؛ مهما كانت بدعته ما لم تكن مكفِّرة. فما من صاحب بدعة إلا وله موافقة للسنة في أشياء قلَّت أو كثرت، فهل يُقال: أنَّ أهل البدع - غير المكفِّرة - كلَّهم يوالون ويحبون من جهة!؛ ما دامت عندهم موافقة للسنة ولو كانت يسيرة؟!
فإنْ قال أهل التمييع: نعم!
فنقول لهم:
إذاً هنيئاً للشيعة والمعتزلة والخوارج والقدرية والجبرية والمرجئة والأشاعرة والصوفية وغيرهم من الطوائف والفرق قديماً وحديثاً بهذه المحبة والموالاة منكم!!!.
وهذا هو أصل التمييع وحقيقته الذي يحاربه السلفيون اليوم، فليفطن الشباب السلفي لذلك.
وهذا الأصل عندهم تنبني عليه آثار سيئة:
منها: الموازنة بين المحاسن والمساوئ عند ذكر أهل البدع!.
ومنها: التعاون والتعامل مع أهل البدع!.
ومنها: الدفاع عن أهل البدع والانتصار لهم!.
ومنها: إدخال أهل البدع في إطار أهل السنة!؛ وأنهم يقبل منهم ما وافقوا فيه الحق ويرد عليهم ما خالفوا فيه الحق، وهذا هو المنهج الواسع الأفيح الذي ينادي به أهل التمييع اليوم.
ومنها: مجالسة أهل البدع!.
ومنها: التهوين من مسائل الاختلاف مع أهل البدع!.
ومنها: إغلاق باب التبديع والتجريح!.
إلى غير ذلك من التأصيلات الفاسدة المتفرعة من ذلك التأصيل الباطل.
أقول:
ولا بد للسلفي النبه أن يعرف الفرق بين (المبتدع) و (العاصي) في هذه المسألة من خلال هذه الوجوه:
الوجه الأول: أنَّ السنة والإجماع قد فرَّقا بين المبتدع والعاصي، فجعلا المبتدع أشد من العاصي، فلا يُقاس الأول على الثاني؛ لأنه قياس مع الفارق، وهو قياس باطل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في [المجموع 20/103-105]: ((إنَّ أهلَ البدع شرٌّ من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم، وقال في الذي يشرب الخمر: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، وقال في ذي الخويصرة: "يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين - وفي رواية: من الإسلام - كما يمرق السهم من الرمية، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنَّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"، وقد قررتُ هذه القاعدة بالدلائل الكثيرة مما تقدم من القواعد.
ثم إنَّ أهل المعاصي ذنوبهم فعل بعض ما نهوا عنه؛ من سرقة أو زنا أو شرب خمر أو أكل مال بالباطل، وأهل البدع ذنوبهم ترك ما أمروا به من إتباع السنة وجماعة المؤمنين؛ فإنَّ الخوارج أصل بدعتهم أنهم لا يرون طاعة الرسول وإتباعه فيما خالف ظاهر القرآن عندهم؛ وهذا ترك واجب. وكذلك الرافضة لا يرون عدالة الصحابة ومحبتهم والاستغفار لهم؛ وهذا ترك واجب. وكذلك القدرية لا يؤمنون بعلم الله تعالى القديم ومشيئته الشاملة وقدرته الكاملة؛ وهذا ترك واجب. وكذلك الجبرية لا تثبت قدرة العبد ومشيئته وقد يدفعون الأمر بالقدر؛ وهذا ترك واجب. وكذلك مقتصدة المرجئة - مع أنَّ بدعتهم من بدع الفقهاء ليس فيها كفر بلا خلاف عند أحد من الأئمة ومن أدخلهم من أصحابنا في البدع التي حكى فيها التكفير ونصره فقد غلط في ذلك - وإنما كان لأنهم لا يرون إدخال الأعمال أو الأقوال في الإيمان؛ وهذا ترك واجب. وأما غالية المرجئة الذين يَكفرون بالعقاب ويزعمون أنَّ النصوص خوفت بما لا حقيقة له فهذا القول عظيم؛ وهو ترك واجب. وكذلك الوعيدية لا يرون اعتقاد خروج أهل الكبائر من النار ولا قبول الشفاعة فيهم؛ وهذا ترك واجب.
فإن قيل: قد يضمون إلى ذلك اعتقاداً محرماً؛ من تكفير وتفسيق وتخليد؟
قيل: هم في ذلك مع أهل السنة بمنزلة الكفار مع المؤمنين؛ فنفس ترك الإيمان بما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع ضلالة؛ وإنْ لم يكن معه اعتقاد وجودي، فإذا انضمَّ إليه اجتمع الأمران، ولو كان معهم أصل من السنة لما وقعوا في البدعة)).
وقال رحمه الله في موضع آخر [المجموع 10/7-10]: ((وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان: فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره؛ إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن أن يثاب ويعاقب وهذا قول جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الإسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وأما القائلون بالتخليد كالخوارج والمعتزلة القائلين إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وإنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعده: فعندهم لا يجتمع في الشخص الواحد ثواب وعقاب؛ وحسنات وسيئات، بل من أثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب. ودلائل هذا الأصل من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة كثير ليس هذا موضعه وقد بسطناه في مواضعه، وينبني على هذا أمور كثيرة.
ولهذا من كان معه إيمان حقيقي: فلا بد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه وإنْ كان له ذنوب؛ كما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنَّ رجلاً كان يسمى حماراً، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي به مرة فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"، فهذا يبين أنَّ المذنب بالشرب وغيره قد يكون محباً لله ورسوله، وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان.
كما أنَّ العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطاً عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه؛ كما استفاض في الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر الخوارج فقال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإنَّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
وهؤلاء قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في الحديث الصحيح: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق".
ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيره: "إنَّ البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأنَّ البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها"، ومعنى قولهم: "إنَّ البدعة لا يتاب منها"، أنَّ المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله ولا رسوله قد زُيِّن له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً، لأنَّ أول التوبة العلم بأنَّ فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب، ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)).
قلتُ:
من هذين النقلين يتبين لنا الفرق بين المبتدع والعاصي:
- فالعاصي اعتقاده وإيمانه صحيح وفعله مخالف للشريعة، ولهذا يُمدح من جهة إيمانه بتحريم المعصية، ويُذم من جهة فعله للمعصية.
- وأما المبتدع فاعتقاده فاسد وهو تارك للإيمان الحقيقي في مخالفته تلك، لأنه يعتقد مشروعية هذه المخالفة؛ وحقيقة أمره: أنه مستدرك ومضاد ومضاه للشريعة كما ذكر ذلك العلامة الشاطبي رحمه الله في الاعتصام، هذا مع مخالفة فعله للشريعة.
فمن أي جهة يحب ويوالى هذا المبتدع؛ وليس له اعتقاد صحيح يحب من أجله ولا فعل مشروع؟!
- وأهل المعاصي فعلوا بعض ما نهوا عنه، بينما أهل البدع تركوا ما أمروا به من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإتباعه، وهذا ترك للإيمان الواجب، وقد يضمون إليه فعلاً منهياً كالاعتقادات الفاسدة، فيزداد ضلالهم أكثر.
- وأهل المعاصي يعلمون أنهم مذنبون مخالفون للشرع، وأنه يجب عليهم التوبة؛ وإنما غلبة الشهوة قاهرة لهم مع ضعف إيمانهم، بينما أهل البدع زُيِّن لهم سوء أعمالهم فرأوها محاسن وحسنات، ولا يرون التوبة عليهم واجبة، لأنهم لا يرون أنهم مخالفون للشريعة، ولهذا كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية.
ورحم الله الإمام البربهاري الذي قال في شرح السنة: ((وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع فاحذره، فإنَّ الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر. وإذا رأيت الرجل رديء الطريق والمذهب فاسقاً فاجراً صاحب معاص ظالماً وهو من أهل السنة فاصحبه واجلس معه فإنه ليس تضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل عابداً مجتهداً متقشفاً محترفاً بالعبادة صاحب هوى: فلا تجلس معه ولا تسمع كلامه ولا تمشي معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقه فتهلك معه)).

الوجه الثاني: أنَّ أئمة أهل السنة كانوا يذكرون في مصنفات العقيدة بغض ومعاداة أهل البدع، ولم يذكروا محبتهم وموالاتهم من وجه مطلقاً؛ كما ذكروا ذلك في أهل المعاصي والذنوب الشهوانية.
وصنيع الأئمة هذا إنما يدل على الفرق بين الأمرين، فمَنْ لم يفرِّق بينهما فهو على غير سبيل الأئمة الأوائل.
قال الإمام ابن بطه في الإبانة الكبرى: ((ولا تشاور أحداً من أهل البدع في دينك ولا ترافقه في سفرك، وإن أمكنك أن لا تقربه في جوارك. ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه وهجرانه والمقت له، وهجران مَنْ والاه ونصره وذب عنه وصاحبه؛ وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة)).
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله في عقيدة السلف وأصحاب الحديث: ((واتفقـوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم، وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم)).
وقال: ((ويتجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم)).
وقال الإمام البغوي في شرح السنة: ((وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم)).
وقال الشيخ حمود التويجري رحمه الله في [القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ ص 31 – 33]: ((وقد كان السلف الصالح يحذرون من أهل البـدع ويبالغون في التحذير منهم، وينهون عن مجالستهم ومصاحبتهم وسماع كلامهم، ويأمرون بمجانبتهم ومعاداتهم وبغضهم وهجرهم)).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في [شرح لمعة الاعتقاد ص110]: ((والمراد بهجران أهل البدع: الابتعاد عنهم وترك محبتهم وموالاتهم والسلام عليهم وزيارتهم وعيادتهم ونحو ذلك، وهجران أهل البدع واجب لقوله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون مَنْ حادَّ الله ورسوله")).
فأهل البدع ممن حادَّ الله ورسوله لا يحبون ولا يوالون، وهذا ما اتفق عليه سلف الأمة، فالواجب السير على نهجهم وعدم مخالفتهم.

وقد يقول مستدرك: إذا كان المبتدع لا يوالى ولا يحب ولا يُكرم ولا يثنى عليه من وجه؛ أليس في هذا تشبيه له بالكافر؟! أو هل هو كافر حتى لا يحب ولا يوالى من وجه؟!

والجواب عنه:
إنَّ بغض ومعاداة أهل البدع هو من باب الزجر والتعزير وليس من باب الردة والتكفير؛ ومثله: عدم السلام عليه، وعدم مصاحبته ومجالسته، وترك زيارته إذا مرض، وترك الصلاة عليه إذا مات؛ فهل يُقال فيمن يعمل بهذه الأحكام: إنه يكفِّر صاحب البدعة؟!
فكذلك يُقال فيمن لا يحب ولا يوالي المبتدع من وجه، هو لا يكفِّره إنْ كانت بدعته غير مكفِّرة، وإنما يفعل ذلك من باب الزجر والتعزير والنصيحة في الدين.
فأهل البدع غير المكفِّرة وإنْ كانوا من فسَّاق الملة، وقد يجتمع فيهم ما يوجب المدح والموالاة وما يوجب الذم والمعادة كصاحب المعصية، لكنَّ المبتدع يُمنع من الثناء عليه وموالاته من باب العقوبة والنصيحة للمسلمين والتحذير من إتباع سبيل المجرمين، لأنَّ الناس يغترون بصاحب البدعة ولا يغترون بصاحب المعصية.
والله الموفِّق.


منقول من مقال الشيخ رائد آل طاهر

--
http://www.sahab.net/forums/?showtopic=131916


 =======================



هل يجتمع في الرجل المبتدع حب وبغض؟ العلامة ربيع بن هادي المدخلي.

الحمد لله والصلاة واسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
سئل العلامة الوالد ربيع بن هادي المدخلي ـ حفظه الله :
هل يجتمع في الرجل المبتدع حب وبغض؟
فأجاب:
الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان ، ومنها يدخل في هذا الحب المؤمنين المخلصين الصادقين ، لأنك تحبهم في الله عز وجل .
ويدخل في البغض : بُغض المنافقين والكافرين ،على مختلَف أصنافهم ، كما يدخل فيه أهل البدع ، لأن لهم نصيبا من مخالفة كتاب الله وسنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، كلّ على قدر بدعته ، ولهم نصيب من موافقة الكفّار والمنافقين في هذه المخالفات العقدية والمنهجية فيأخذون نصيبهم من البُغض .
وإذا تأملنا كلام السلف ، واستقرأنا عموم كتب السنة ، فلا نجد هذا التوزيع، توزيع القلب في قضية أهل البدع ، إلى حب من جهة ، وبُُغض من جهة ، لانجد ذلك ، و لا نجد من السلف إلا الحث على بُغضهم وهجرانهم، بل قد حكى عدد من الأئمة الإجماع على بُغضهم وهجرهم ومقاطعتهم ، حكى عدد من الأئمة منهم الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ صاحب " شرح السنة" وصاح " التفسير" وغيرهما من المؤلفات النافعة ، وهو إمام من أئمة السنة، ولعله يُعَدُّ من المجددين ، وكذلك الإمام الصابوني صاحب " شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث" ، وغيره ، حكوا الإجماع على بُغض أهل البدع ، وهجرانهم ، ومقاطعتهم ، هذا الإجماع من الصحابة ومن بعدهم.
وأظن أنه ما يستطيع إنسان أن يجمع بين الحب والبُغض ، ويوزعهما ويقسمهما قسمين، البغض على قدر ما ارتكب من البدعة ، والحب على ما بقي عليه من السنة ، فهذا تكليف بما لا يُطاق، وكل ّ يؤخذ من قوله ويردّ.
وإن قال هذا القول رجل من أئمة الإسلام ، وشأن أقواله شأن أقوال أئمة السنة ، ما كان من حق ّ قبلناه ، ورفعناه على رءوسنا ، وما كان من خطأ فهذا مردود ، كل يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ..
والسلف تعاملوا مع أخطاء الصحابة ، الأخطاء التي تحصل من بعضهم يحترمونهم ويُجلونهم ، ولكن الخطأ لا يأخذونه منهم ، فالعصمة ليست إلا لرسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ وللأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فيما يبلغونه ، أما غيرهم فليس لهم عصمة من الوقوع في الخطأ..
لهذا ترى ما أخذوا بشيئ من أقوال عمر و لابشيئ من أقوال عثمان التي فيها نظر، ردوها،شيئ من أقوال عليّ ردوه ، شيئ من كلام ابن عباس ، ومن كلام ابن مسعود ، من كلام الأئمة الكبار بعدهم: من أقوال سعيد بن المسيب ، من أقوال مالك والأوزاعي والثوريّ والشافعي و أحمد وغيرهم .
أخذوا من كلامهم ما يوافق الحق ، وما يوافق الكتاب والسنة ، وترحموا عليهم ، وترضوا عنهم ، واعتقدوا فيهم أنهم مجتهدون ، وقد يُصيبون وقد يُخطئون. وهذا في المسائل التي يجوز فيها الاجتهاد ، وذلك عند عدم النص من الله ومن رسوله ـ صلى الله عيه وسلم..
فالقول بأن نُحبَّه على قدر ما عنده من سنة، ونُبغضه على قدر ما عنده من البدع ، هذا الكلام لا يوجد عند السلف .
وقد نا قشنا هذه الفكرة في بعض الكتابات . الرد على أهل الموازنات ، ومن يتعلق بالموازنات ، ويتستر بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى أن الانسان يُحَبُّ على قدر ما عنده من السنة ، ويُبغض على قدر ما عنده من البدع.
ورددنا على هذه الأشياء بكلام السلف ، ومواقفهم ، بل بإجماعهم.
أسأل الله أن يُثبتنا على السنة .
لكن البُغض يتفاوت ، بُغض اليهودي أكثر من بُغض النصراني ، نُبغض النصارى ، ونُبغض اليهود، و لا نحبهم ، ولكن اليهود أشد عداوة" لتجدن أشد الناس عداوة للذين ءامنوا اليهود والذين أشركوا" {المائدة72} فالنصارى أقل بُغضا للمسلمين من اليهود، وأقل عداوة ، وهذا شيئ ثابت ، يُثبته الواقع والتاريخ.
فالمسلم يستطيع أن يعيش في بلاد النصارى، كما ترى كثيرا من المسلمين يعيشون في بلاد النصارى ، ولا يستطيعون أن يعيشوا في بلاد اليهود،بل اليهود يلاحقونهم في بلاد النصارى، فضلا عن بلادهم ، كما لا يستطيع السني أن يعيش عند الروافض، فيجد من الكبت والأذى والمخاطر ما لايجده حتى عند اليهود، كيف نحب الروافض على ما عندهم من الكفريات وهم يبغضوننا أكثر من بُغض اليهود لنا ، كيف نُحبهم؟
ونقسم الحب بيننا وبينهم؟
الشاهد أنك تقرا في كتب السلف جميعا ما تجد هذه الموازنات ، ونحن إذا أبغضنا أهل البدع من الصوفية وغيرهم ، وهم فِرق كثيرة ، ومن الأشعرية وغيرهم ، لا نُبغضهم مثل بُغض اليهود والنصارى، يعني أن الحب مثل الإيمان يزيد وينقص، ويتفاوت في العباد ، والبغض كذلك ، بُغضِي لليهود غير بُغضي للنصارى، غير بُغضي لأهل البدع.
وإذا اعتدى كفار اليهود والنصارى على مثل الأشاعرة والصوفية فنحن نُدافع عنهم، ونُساعدهم على مواجهة هؤلاء الأعداء ، مع بُغضنا لهم ، وهم يُبغضوننا أشد البُغض ، هم ليس عندهم هذا التوزيع، فالواجب عليهم أن يُحبونا وأن يرجعوا إلى ما عندنا ، ولكن لا حب و لا إنصاف ، بل قد يُبالغ بعض غُلاتهم فيُكفرونا ظلما وعُدوانا ، ونحن لا نُكفرهم ولا نبلغ بهم مبلغ عداوة الكافرين..
عون الباري 978 ـ 979 ـ 980 ـ 981..